الرزقُ بالبركةِ لا بالمال
في سالِفِ الأَزْمَانِ، وفي قَرْيَةٍ وَادِعَةٍ تَتَرَاقَصُ عَلَى ضِفَافِ النَّهْرِ، عَاشَ رَجُلٌ حِرْفَتُهُ شَرِيفَةٌ، وَمِهْنَتُهُ وَضِيعَةٌ فِي أَعْيُنِ النَّاسِ، لَكِنَّهُ كَانَ يَرَاهَا تَاجًا عَلَى رَأْسِهِ. كَانَ صَانِعًا لِلْحِبَالِ، يَنْسِجُ خُيُوطَ القُطْنِ الرَّقِيقَةَ، يَلُفُّهَا بِأَنَامِلِهِ الخَشِنَةِ، حَتَّى تَصِيرَ حِبَالًا مَتِينَةً تَقِي السُّفُنَ مِنَ الغَرَقِ، وَتَرْبِطَ الخُيُولَ فِي الإِسْطَبْلَاتِ، وَتَشُدَّ البُيُوتَ كَيْ لا تَنْهَارَ جُدْرَانُهَا. غَيْرَ أَنَّ جُهْدَهُ المُضْنِيَ لَمْ يَكُنْ يُدِرُّ عَلَيْهِ إِلَّا قُوتًا بِالكَادِ يَسُدُّ رَمَقَهُ وَرَمَقَ صِغَارِهِ.
وَكَانَ
لِهَذَا الرَّجُلِ صَدِيقَانِ، أَغْنِيَاءُ مُتْرَفُونَ، رَقَّتْ قُلُوبُهُمْ
لِحَالِهِ، إِذْ رَأَوْهُ يَقْضِي نَهَارَهُ مُنْحَنِيًا عَلَى عَمَلِهِ، يُفْرِغُ
جُهْدَهُ، وَيَقْضِي لَيْلَهُ فِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ، لَا يَمْلِكُ مِنَ المَالِ
إِلَّا مَا يُبْقِيهِ وَاقِفًا عَلَى قَدَمَيْهِ. فَقَالَا لَهُ ذَاتَ يَوْمٍ:
"يَا
صَدِيقَنَا، لَا يَلِيقُ بِكَ هَذَا العَنَاءُ، وَقَدْ عِشْنَا سَوِيَّةً
صِغَارًا، وَرَأَيْنَا فِيكَ الأَمَانَةَ وَالكِفَاحَ. هَذِهِ مِائَةُ قِطْعَةٍ
ذَهَبِيَّةٍ، خُذْهَا، وَاشْتَرِ بِهَا مَتْجَرًا، وَانْهَضْ بِعَمَلِكَ،
فَلَعَلَّكَ تَغْدُو يَوْمًا مِنَ التُّجَّارِ. سَنَعُودُ إِلَيْكَ بَعْدَ سِتَّةِ
أَشْهُرٍ لِنَرَى مَا صَنَعَتْ يَدَاكَ."
تَقَلَّبَ
قَلْبُ الرَّجُلِ بَيْنَ فَرَحٍ وَوَجَلٍ، فَقَدْ أُغْدِقَتْ عَلَيْهِ نِعْمَةٌ
لَمْ يَذُقْهَا مِنْ قَبْلُ، لَكِنَّهُ لَمْ يَدْرِ كَيْفَ يُحْسِنُ
اسْتِثْمَارَهَا. جَلَسَ عِنْدَ عَتَبَةِ بَيْتِهِ، يَتَأَمَّلُ وَلَدَيْهِ
يَلْهُوَانِ أَمَامَهُ، ثُمَّ لَمَعَتْ فِي خَاطِرِهِ فِكْرَةٌ: "أَلَمْ
يَذُوقَا مِنَ الدُّنْيَا سِوَى الفَقْرِ؟ أَوَلَمْ يَجْدُرْ بِي أَنْ أُفْرِحَ
قَلْبَهُمَا؟"
فَقَصَدَ
السُّوقَ مُسْرِعًا، وَاشْتَرَى لَهُمَا المَلَابِسَ الزَّاهِيَةَ وَالحَلْوَى
الشَّهِيَّةَ، مُنْفِقًا عَشْرَ قِطَعٍ ذَهَبِيَّةٍ فِي غَمْضَةِ عَيْنٍ.
لَكِنَّ
المَالَ مَالٌ، وَالمَالُ فِتْنَةٌ، وَالمَالُ يَسْرِقُ النَّوْمَ مِنَ العُيُونِ،
فَخَشِيَ الرَّجُلُ أَنْ يَسْرِقَهُ لِصٌّ، أَوْ يَضِيعَ مِنْهُ دُونَ أَنْ
يَدْرِيَ. فَابْتَكَرَ حِيلَةً رَأَى فِيهَا الأَمَانَ، فَلَفَّ القِطَعَ
الذَّهَبِيَّةَ المُتَبَقِّيَةَ بِخِرْقَةٍ، وَأَخْفَى الكَنْزَ فِي عِمَامَتِهِ،
ثُمَّ شَدَّهَا عَلَى رَأْسِهِ بِإِحْكَامٍ، وَابْتَسَمَ مُطْمَئِنًا.
وَبَيْنَمَا
كَانَ يَمْضِي إِلَى دَارِهِ، تَتَرَاقَصُ فِي خَيَالِهِ الأَحْلَامُ
الوَرْدِيَّةُ عَنْ مَتْجَرِهِ المُنْتَظَرِ، إِذِ انْقَضَّ عَلَيْهِ طَائِرٌ
كَبِيرٌ، رَأَى فِي يَدِهِ صُنْدُوقَ الحَلْوَى، فَأَرَادَ اخْتِطَافَهُ،
لَكِنَّهُ لَمْ يَسْتَطِعْ، فَرَفَعَ بَصَرَهُ إِلَى العِمَامَةِ، وَرَأَى
انْتِفَاخَهَا، فَحَسِبَهَا كَنْزًا مِنَ الطَّعَامِ، فَخَطِفَهَا مِنْ رَأْسِهِ
وَطَارَ بِهَا عَالِيًا، يُحَلِّقُ بِهَا إِلَى حَيْثُ لَا يَعْلَمُ أَحَدٌ!
صَرَخَ
الرَّجُلُ، جَرَى، اسْتَغَاثَ:
—
"أَمْسِكُوا الطَّائِرَ! أَمْسِكُوهُ!"
لَكِنَّ
النَّاسَ ضَحِكُوا، فَقَدْ رَأَوْا عِمَامَةً طَارَتْ، وَلَمْ يَدْرُوا أَنَّ فِي
جَوْفِهَا ثَرْوَةً ضَاعَتْ، وَلَمْ يُصَدِّقُوا أَنَّ ذَلِكَ الطَّائِرَ قَدْ
خَطَفَ حُلْمًا وَوَأَدَ أَمَلًا.
عَادَتِ
الأَيَّامُ تَدُورُ، فَعَادَ الرَّجُلُ إِلَى حَالِهِ الأُولَى، يَلُفُّ
الحِبَالَ، وَيَكْدَحُ كَمَا كَانَ.
وَمَضَتِ
الأَشْهُرُ السِّتَّةُ، وَعَادَ الصَّدِيقَانِ، فَوَجَدَا صَاحِبَهُمَا كَمَا
تَرَكَاهُ، فَقِيرًا كَمَا كَانَ، مُعْدَمًا كَمَا عَهِدَاهُ.
وَتَنَهَّدَ أَحَدُهُمَا وَقَالَ بِأَسًى:
"يَبْدُو
أَنَّ الذَّهَبَ لَمْ يُغَيِّرْ قَدَرَكَ، وَلَمْ يَرْفَعْكَ إِلَى مَقَامِ
التُّجَّارِ. هَذِهِ المَرَّةُ لَنْ نُعْطِيَكَ ذَهَبًا، بَلْ شَيْئًا لَا تَرَاهُ
ذَا قِيمَةٍ: خُذْ هَذِهِ القِطْعَةَ مِنَ الرَّصَاصِ، فَقَدْ تَنْفَعُكَ أَكْثَرَ
مِمَّا تَتَصَوَّرُ."
فَتَعَجَّبَ
الرَّجُلُ، وَلَكِنَّهُ أَخَذَ الهَدِيَّةَ عَلَى مَضَضٍ، وَعَادَ بِهَا إِلَى
دَارِهِ، لَا يَدْرِي أَيُّ خَيْرٍ يُرْتَجَى مِنْ هَذَا الرَّصَاصِ.
وَفِي
لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِي الشِّتَاءِ، جَاءَهُ جَارُهُ الصَّيَّادُ، يَشْكُو
حَاجَتَهُ إِلَى قِطْعَةٍ مِنَ الرَّصَاصِ لِتُثَقِّلَ شِبَاكَهُ الَّتِي
أَرْهَقَتْهَا الأَيَّامُ. فَمَا كَانَ مِنَ الرَّجُلِ إِلَّا أَنْ أَعْطَاهُ
القِطْعَةَ، بِلا تَرَدُّدٍ، وَلَا رَجَاءَ مُقَابِلٍ.
وَلَكِنَّ
الصَّيَّادَ، صَاحِبَ العَهْدِ، قَالَ لَهُ:
—
"سَأَرُدُّ لَكَ الجَمِيلَ، وَسَأُهْدِيكَ
أَوَّلَ سَمَكَةٍ تَصْطَادُهَا شِبَاكِي غَدًا مَعَ أَوَّلِ شُعَاعٍ لِلشَّمْسِ."
وَفِي
صَبَاحِ اليَوْمِ التَّالِي، أَقْبَلَ الصَّيَّادُ حَامِلًا سَمَكَةً ضَخْمَةً،
قَدْ اصْطَادَهَا مَعَ طُلُوعِ الفَجْرِ.
فَأَخَذَهَا
صَانِعُ الحِبَالِ، وَقَصَدَ دَارَهُ، فَلَمَّا شَقَّ جَوْفَهَا، وَجَدَ مَا لَمْ
يَخْطُرْ لَهُ عَلَى بَالٍ! مَاسَةً
تَتَلَأْلَأُ كَأَنَّهَا قِطْعَةٌ مِنَ القَمَرِ!
فَأَسْرَعَ
إِلَى السُّوقِ، وَبَاعَ المَاسَةَ، وَجَنَى مِنْهَا ثَرْوَةً عَظِيمَةً، اشْتَرَى
بِهَا مَتْجَرًا لِلْحَرِيرِ، وَأَتْقَنَ تِجَارَتَهُ، وَبِمُرُورِ الأَيَّامِ صَارَ
مِنْ كِبَارِ التُّجَّارِ، مُهَابًا فِي السُّوقِ، مَرْمُوقًا بَيْنَ القَوْمِ.
وَحِينَ
عَادَ الصَّدِيقَانِ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَجَدَاهُ جَالِسًا فِي مَتْجَرِهِ،
حَسَنَ الهَيْئَةِ، وَضَاحِكَ الثَّغْرِ، تُحِيطُ بِهِ الأَقْمِشَةُ الفَاخِرَةُ،
وَالبَضَائِعُ الثَّمِينَةُ.
فَقَالَا
بِدَهْشَةٍ وَسُرُورٍ:
"عَجَبًا!
كَيْفَ لِقِطْعَةٍ مِنَ الرَّصَاصِ أَنْ تَمْنَحَكَ مَا لَمْ تَمْنَحْكَ مِائَةُ
قِطْعَةٍ ذَهَبِيَّةٍ؟"
فَأَجَابَ
ضَاحِكًا:
"إِنَّ
المَالَ وَحْدَهُ لَا يُغْنِي صَاحِبَهُ، بَلِ الحَظُّ وَالبَرَكَةُ فِي
الرِّزْقِ، وَالكَسْبُ الحَلَالُ، وَإِعْطَاءُ الخَيْرِ بِغَيْرِ انْتِظَارِ
المُقَابِلِ، هِيَ الَّتِي تَصْنَعُ الثَّرْوَةَ وَتُبَدِّلُ الحَالَ."
وهَكَذَا،
لَمْ يَكُنِ الذَّهَبُ رِزْقًا لِصَانِعِ الحِبَالِ، بَلْ كَانَتِ البَرَكَةُ
كَامِنَةً فِي رَصَاصَةٍ صَغِيرَةٍ، حَمَلَتْ فِي جَوْفِهَا سِرَّ الغِنَى،
الَّذِي لَا يَرَاهُ إِلَّا مَنْ أُوتِيَ الحِكْمَةَ.
قصة للأطفال: سلطعون نورا المشهور
قصة وحكمة: سمكة النهر وسمكة البحر
قصة للأطفال: الغزال ونقار الخشب والسلحفاة
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق