الغرور مفتاح اللعنة
في سالف العصر والأوان، حين كانت الآلهة تسكن الأوليمب، وحين كانت الأرض تحكمها الأقدار، وُلدت فتاة من نور وجمال، اسمها ميدوسا، فتنة الزمان، ومفخرة كل عين ترى. كانت حسناء تضاهي في بهائها إشراق القمر في الليالي البيض، وفي لمعان شعرها تنافس خيوط الشمس، وفي خضرة عينيها تغار أمواج بحر إيجه المتلاطم.
لكن
غرورها كان كالزهرة السامّة، عبقها آسر ولكنها تفتك بصاحبها، إذ لم تترك فرصة إلا
وتباهت بجمالها، فلم تُبقِ لألسنة الناس حديثًا إلا عن سحر مُحَيّاها، ولم تبقِ
لنفسها سعيًا إلا إلى المرايا لتتلذذ بانعكاسها.
وفي
يومٍ أغبر، شقّت طريقها إلى البارثينون العظيم، حيث المعبد المكرّس لأثينا، آلهة
الحكمة والبأس، وحيث الفن يتجلى في منحوتات تروي مجد الآلهة وعظمة الأبطال. هناك،
في لحظة كبرياء أحمق، تجرّأت ميدوسا أن تقول همسًا، وما كان للآلهة أن يَخفى عنها
همسٌ، إن جمالها أجدر بأن يُخلّد على الجدران بدل تماثيل أثينا. وزادت في غيّها
وقالت: "كم هو مؤسف أن يُهدَر هذا المكان على من لا تملك مثل حسني! ليتهم
يشيدون معبدًا لي أنا، ميدوسا، الأجمل بين البشر والآلهة!"
وكانت
تلك الكلمات كناقوس خطر، فاهتز المعبد كأن الأرض تريد أن تبتلعها، وساد الصمت بين
العباد، إذ علموا أن الآلهة لا تدع الكبرياء يمر بلا قصاص. ولم تكد ميدوسا تلتفت
حتى انعكس وجهٌ على الأبواب البرونزية الضخمة، لم يكن وجهها هذه المرة، بل كان وجه
أثينا الغاضبة، عيناها كالشهب، وصوتها كالرعد إذ قالت:
"أيتها
الفانية المغرورة، لم يهبك الخالق هذا الجمال إلا ليكون فتنة لا لعنة، نعمة لا
نقمة، فبدل أن تسبّحي بحمد من وهبك الحسن، جعلتِه وسيلة للتباهي والتعالي. لكن
اعلمي، يا ميدوسا، أن الغرور لا يبقى، والجمال إلى زوال، فإن لم تتعلمي، سألقنك
درسًا لا يُنسى!"
وهكذا،
رفعت أثينا يدها، ونزل القضاء المحتوم، فإذا بجمال ميدوسا يتلاشى كأوراق الخريف
الذابلة، وتحول شعرها الذهبي إلى أفاعٍ متلوّية ذات أنياب سامّة، وعيناها اللتان
كانتا مرآة للفتنة، صارتا لعنًة لكل من ينظر إليهما، إذ لا يُبصرها بشر إلا صار
صخرة لا حياة فيها.
ثم
نُفيت المسكينة إلى جزيرة نائية، في مغارة تحيط بها الصخور التي كانت يومًا رجالًا
طحنتهم أعينها دون قصد، فباتت وحيدة، لا تجد إلا ثعابين رأسها لتحادثها، ولا ترى
إلا ظلام المغارة مخافة أن تلمح انعكاس وجهها فتهلك.
لكن
القدر، كعادته، لا يسدل ستاره دون أن يكتب فصله الأخير، فقد جاء يومٌ أُرسل فيه
الفارس المقدام بروسيوس في مهمة لا قبل للبشر بها، ليقطع رأس ميدوسا، وينهي
لعناتها إلى الأبد.
كان
بروسيوس ابن زيوس، قوته كأعمدة الأوليمب، وشجاعته تضيء كالبروق في الليالي
العاصفة. وحين أراد المضيّ في مسعاه، مدّت له الآلهة يد العون، فحصل على هدايا لا
تُقدّر بثمن: خوذة الإخفاء التي تجعل لابسيها ظلاً لا يُرى، وسيفٌ حاد كحدّ القدر،
ودرع براق كمرآة، ليكون درعه ضد اللعنة.
وهكذا،
شدّ الرحال إلى الجزيرة الموحشة، حيث نامت ميدوسا، تحرسها أحلامٌ متشابكة بأفاعي
شعرها. تسلل بروسيوس بخفة الظلال، واقترب منها دون أن ينظر إليها، بل راح يحدّق في
انعكاس صورتها في درعه المصقول. وحين لاحت الفرصة، ضرب بسيفه، فقطع رأسها في لمحة
برق، وسارع إلى وضعها في كيس، قبل أن تفيق أختاها الغورغونات وتُصِبْهما ثورة
الغضب.
حمل
البطل رأس ميدوسا، وسار به عبر البحار، حتى وصل إلى الأرض التي كان يحكمها الوحش
الكراكون، الذي طالب البشر بقرابين من دمائهم وإلا أرسل عليهم الغرق والدمار. كانت
الفتاة أندروميدا قد حُكم عليها بأن تكون الوجبة القادمة، ووقف أهلها مكتوفي
الأيدي، إذ لا مفر من غضب الوحش.
لكن
بروسيوس، بذكائه قبل شجاعته، انتظر حتى اقترب الكراكون، ثم أخرج رأس ميدوسا، فوقع
نظر الوحش عليه، وما إن لمحت عيناه العاجزتان ذلك الوجه اللعين، حتى تصلّب جسده،
وتحجر كيانه، وسقط في اليم كأنه جبلٌ غاص في أعماق الظلام.
وهكذا،
نجا الناس، وزُفّت أندروميدا إلى بروسيوس، وتحقق له المجد كما تحققت له السعادة.
أما
رأس ميدوسا، فاختلفت الروايات حول مصيره، فمن قائلٍ إن بروسيوس ألقاه في البحر
ليصبح طعامًا للتيارات العاتية، ومن زاعمٍ أن أثينا نفسها استعملته سلاحًا في
درعها، ليكون رمزًا للعقاب الإلهي ضد كل متكبر مغرور.
لكن
مهما يكن مصيره، فقد بقيت أسطورة ميدوسا درسًا للأيام، يحكيه الرواة ويتناقله
الأحفاد، بأن الجمال وحده لا يصنع المجد، وأن الغرور مفتاح اللعنة، وأن الحكمة
أعظم من الفتنة، والقدر لا يرحم من يتحداه.
قصة وحكمة: خدعة الذئاب وهلاك كلاب الراعي
قصة وحكمة: الملك هنري الثاني وديان دي بواتييه
قصة أسطورة: أراكني النسّاجة ولعنة أثينا
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق