المكرُ لا يُنجي من القدرِ
في سالفِ الزمانِ، وحين كانتِ الأيامُ تدورُ كرحى القدرِ، عاشَ ملكٌ ماكرٌ، أشدُّ دهاءً من الثعالبِ، وأمضى مكرًا من الأفاعي، إنه "سيزيفُ"، ابنُ "إيولوسَ"، إلهِ الرياحِ الهوجاءِ، وملكُ "سيلينا"، تلك الأرضِ التي شقّتْ أمواجَها السفنُ، وازدحمتْ أسواقُها بالتجارِ، ورفرفتْ فوقَها راياتُ الحيلةِ والخداعِ.
كان
"سيزيفُ" ذا عقلٍ ثاقبٍ كالسيفِ، ولسانٍ حادٍّ كالنصلِ، لا يعرفُ
للقناعةِ سبيلًا، ولا للرحمةِ طريقًا، فتراه يتلاعبُ بالأقدارِ، ويحيكُ الحِيَلَ،
ويصنعُ المكائدَ، حتى اغتصبَ عرشَ أخيهِ، واستبدَّ بالمُلكِ والسلطانِ، يغدرُ
بالضيفِ، ويقتلُ المسافرَ، غيرَ آبهٍ بقوانينِ السماءِ ولا الأرضِ، فباتتْ نفسُه مَطمعةً
للآلهةِ، وأفعالُه شرارةً لغضبِ "زيوسَ"، كبيرِ الأوليمبِ الجبارِ.
وكان
"زيوسُ" قد اتخذهُ صاحبًا، يبوحُ لهُ بأسرارهِ، ويقصُّ عليهِ مغامراتِه
النسائيةِ، حتى وقعتِ الفاجعةُ، إذ أفشى "سيزيفُ" سرًّا من الأسرارِ
العظامِ، فذهبَ إلى إلهِ النهرِ "أسوبوسَ" وقالَ لهُ: "إن ابنتَكَ
الحسناءَ، أيجينا، لم تكنْ إلا فريسةً لمخالبِ زيوسَ، فقد اختطفَها بعيدًا، ونالَ
منها بغيرِ إذنٍ ولا حقٍّ".
حين
بلغَ الخبرُ مسامعَ "زيوسَ"، استشاطَ غضبًا، وأقسمَ أن يجعلَ من
"سيزيفَ" عبرةً لمن يعتبرُ، فأمرَ إلهَ الموتِ "ثاناتوسَ" أن
يقبضَ روحَه، ويسوقَه إلى ظلماتِ الجحيمِ. ولكنْ ما أدراكَ بمكرِ
"سيزيفَ"؟ فقد احتالَ على "ثاناتوسَ"، وأقنعَه بأن يجربَ
أصفادَ الموتِ على نفسِه ليتأكدَ من إحكامِها، وما إن فعلَ حتى كبّلَه
"سيزيفُ" بها، وأبقاهُ رهينًا بقيودِه، فعمَّ الخلقَ العجبُ، واستحالَ
الموتُ إلى سرابٍ، فها همُ القتلى في الحروبِ ينهضونَ من جديدٍ، والمرضى يئنّونَ
بلا خلاصٍ، حتى شكتِ الآلهةُ فقدانَ لذةِ الانتقامِ، وباتَ العالمُ في فوضى عارمةٍ.
فما
كان من "هاديسَ"، إلهِ الجحيمِ، إلا أن تدخّلَ بنفسِه، فحرّرَ
"ثاناتوسَ"، وأعادَ الميزانَ إلى نصابِه، وأرسلَ "سيزيفَ" إلى
المصيرِ الذي حاولَ الفرارَ منهُ، ولكنْ هيهاتَ! فما زالَ في جعبةِ الماكرينَ
حِيَلٌ لا تنقضي، إذ طلبَ "سيزيفُ" من زوجتِه أن لا تُكرمَه بمراسمِ
الدفنِ، وعندَ وصولِه إلى الجحيمِ تظاهرَ بالجزعِ، وأقنعَ "بيرسيفوني"،
ملكةَ العالمِ السفليِّ، أن تسمحَ لهُ بالعودةِ ليؤدّيَ طقوسَ دفنِه كما يليقُ
بالملوكِ.
وما
إن عادَ إلى ضوءِ الشمسِ، حتى ضحكَ في سرِّه ضحكةَ المنتصرِ، ولم يعدْ من حيثُ
أتى، بل عاشَ مستمتعًا بالحياةِ، مستزيدًا من اللذاتِ، غيرَ عابئٍ بمواثيقِه، حتى
أدركَه "زيوسُ"، الذي سئمَ من لعبِه وخداعِه، فحكمَ عليهِ بعقابٍ لا
يعرفُ الخلاصَ، ولا يجدُ الراحةَ.
لقد
كُتبَ على "سيزيفَ" أن يرفعَ صخرةً عظيمةً من سفحِ الجبلِ إلى القمةِ،
وما إن يقتربَ من بلوغِ القمةِ، حتى تتدحرجَ الصخرةُ كأنّما ترفضُ طاعتَه، فينزلَ
من جديدٍ، يتصبّبَ عرقًا، وينوءَ حملًا، ويرفعَها مرةً أخرى، لكنهُ، كلما بلغَ
القمةَ، تكرّرَ السقوطُ، وكأنّ القدرَ يسخرُ منهُ، فيدورَ في دائرةٍ لا مخرجَ
منها، وعذابٍ لا ينقضي، ويفني الدهرُ وهو في صراعٍ مريرٍ مع الصخرةِ العنيدةِ.
هكذا صارَ "سيزيفُ" رمزًا للعذابِ الأبديِّ، يجاهدُ جهادًا لا ينفعُ، ويكدُّ كدًّا لا ثمارَ لهُ، حتى صارَ اسمُه مرادفًا لكلِّ من يسعى فيما لا يُرجى، ويكدحُ فيما لا يُؤتى، ويبقى مثلُه شاهدًا على سخطِ الآلهةِ، وانتقامِ الأقدارِ.
قصة وحكمة: خدعة الذئاب وهلاك كلاب الراعي
قصة وحكمة: الملك هنري الثاني وديان دي بواتييه
قصة أسطورة: أراكني النسّاجة ولعنة أثينا
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق