الخميس، 27 فبراير 2025

• قصة وحكمة: إل دورادو حلمٌ ذهبيٌّ أضاعَ إمبراطوريةً

الجشعُ يُهلكُ الأممَ والأفرادَ

على مرِّ العصورِ، لم يكن هناك ما يُغري الإنسانَ أكثرَ من بريقِ الذهبِ، فتاريخُ البشريةِ حافلٌ بأساطيرِ المدنِ المفقودةِ والكنوزِ المخبوءةِ التي تأسرُ العقولَ وتسلبُ الألبابَ. لكن حين يتحوَّلُ الطمعُ إلى هوسٍ، ويتحوَّلُ الحلمُ إلى لعنةٍ، لا بد أن تنتهيَ القصةُ بمأساةٍ. هذه قصةُ الإسبانِ الذين سعوا وراءَ سرابِ الذهبِ، فسقطوا في وحلِ الجشعِ، ولم يستيقظوا إلا بعدَ فواتِ الأوانِ.

في عامِ 1532، وبعد أن أحكمَ الغزاةُ الإسبانُ قبضتَهم على إمبراطوريةِ الإنكا في بيرو، بدأ الذهبُ يتدفَّقُ إلى إسبانيا، فاشتعلت في النفوسِ نيرانُ الطمعِ، وسرت بين الناسِ أسطورةٌ عن زعيمٍ هنديٍّ يغطِّي جسدَه بالذهبِ سنويًّا قبل أن يغوصَ في بحيرةٍ مقدسةٍ. سرعانَ ما تحوَّلت هذه الروايةُ إلى خرافةٍ أعظمَ، فأصبحت "إل دورادو" ليست مجردَ رجلٍ مُذَهَّبٍ، بل مملكةً كاملةً من الذهبِ الخالصِ، حيثُ الشوارعُ والقصورُ وكلُّ شيءٍ يلمعُ ببريقِ المعدنِ النفيسِ. لم يكن الإسبانُ ليقاوموا هذا الإغراءَ، فانطلقت الحملاتُ بحثًا عن الفردوسِ الذهبيِّ.

في عامِ 1541، أبحر جونزالو بيزارو، شقيقُ القائدِ الإسبانيِّ الشهيرِ فرانسيسكو بيزارو، من ميناءِ كيتو في الإكوادور على رأسِ أكبرِ حملةٍ استكشافيةٍ للعثورِ على إل دورادو. كان معه 360 جنديًّا إسبانيًّا بعتادِهم اللامعِ، وأكثرَ من 4000 دليلٍ هنديٍّ، وعددٌ لا يُحصى من الخنازيرِ وحيواناتِ اللاما والكلابِ التي جُلِبت كقوتٍ للمسيرةِ الطويلةِ. غير أن الغابةَ المطيرةَ لم تكن ترحبُ بالوافدينَ الجددِ، فسرعانَ ما هبطت عليهم الأمطارُ كأنها لعنةٌ إلهيةٌ، فتوحَّلت الأرضُ، وتعفَّنَ الطعامُ، وسادت الفوضى.

مع كلِّ خطوةٍ داخلَ الأدغالِ، ازدادَ الوضعُ سوءًا، فكلما سأل جونزالو الهنودَ عن موقعِ مملكتِه الذهبيةِ ولم يجدْ إجابةً تُرضيه، كان يعذِّبهم بوحشيةٍ ويلقي بأجسادِهم الممزقةِ إلى الكلابِ الجائعةِ. وإذ أدركَ السكانُ الأصليونَ قسوةَ الغزاةِ، بدأوا يحيكون لهم الأكاذيبَ، يرسلونَهم نحوَ المجهولِ، يدفعونهم أعمقَ في قلبِ الغابةِ، حيثُ الموتُ يتربَّصُ بهم عند كلِّ منعطفٍ.

تدهورت أحوالُ المستكشفينَ سريعًا، تمزَّقت ملابسُهم، وصدأت دروعُهم، واهترأت أحذيتُهم حتى باتوا يسيرونَ حفاةً، بينما قضى الجوعُ على حيواناتِهم وعبيدِهم، حتى اضطروا إلى التهامِ كلابِهم للنجاةِ. وفي النهايةِ، حين أدركَ جونزالو أن حلمَه يتحوَّلُ إلى كابوسٍ، قرَّر المغامرةَ بالإبحارِ عبرَ نهرِ نابو، لكن النهرَ لم يكن أرحمَ من الأدغالِ. أرسلَ بعضَ رجالِه للاستطلاعِ، إلا أنهم انتهزوا الفرصةَ وهربوا، تاركينَ قائدَهم في براثنِ الهلاكِ.

ظلَّ المطرُ ينهمرُ بلا توقُّفٍ، والرجالُ يذوون من الجوعِ واليأسِ، ولم يعدْ في قلوبِهم سوى أمنيةٍ واحدةٍ: العودةُ إلى كيتو أحياءَ. وبعدَ عامٍ ونصفٍ من الضياعِ، عادَ منهم مائةُ رجلٍ بالكادِ، أشباحٌ هزيلةٌ لا يُعرفونَ من شدةِ الوهنِ، بملابسٍ ممزقةٍ وجلودٍ متقرحةٍ، محمَّلين بخيبةٍ لم يسبقْ لها مثيلٌ. كانت النتيجةُ الوحيدةُ لرحلتِهم أنهم داروا في حلقاتٍ مفرغةٍ، وابتلعتْهم الغابةُ وأكلتْ أحلامَهم، بينما بقي الذهبُ بعيدًا كسرابٍ لا يُطالُ.

لكنَّ المأساةَ لم تنتهِ عند ذلكَ الحدِّ، فحتى بعدَ الكارثةِ التي لحقتْ بحملةِ جونزالو، لم يتوقفِ الإسبانُ عن البحثِ عن إل دورادو، تكررت الحملاتُ، وتكرَّرَ الخرابُ، وضاعت المزيدُ من الأموالِ والأرواحِ في سبيلِ حلمٍ لم يكن له وجودٌ. ومع مرورِ السنينِ، تحولت إسبانيا التي كانت سيدةَ العالمِ إلى إمبراطوريةٍ منهكةٍ، مستنزفةِ المواردِ، غارقةٍ في الديونِ، بعدما أنفقتْ كلَّ ذهبِها على حروبٍ عبثيةٍ وترفٍ أحمقَ، دون أن تستثمرَ في قوتِها الحقيقيةِ: الإنتاجِ والزراعةِ والتجارةِ. وبحلولِ القرنِ السابعَ عشرَ، كانت الإمبراطوريةُ الإسبانيةُ قد انهارتْ، وقلَّ عددُ سكانِها إلى النصفِ، وتحولت مدريدُ من مدينةٍ عامرةٍ إلى مدينةٍ خاويةٍ. لقد كان هوسُ الذهبِ لعنةً أطاحتْ بمجدِ أمةٍ كاملةٍ.

ليس كلُّ ما يلمعُ ذهبًا، وليس كلُّ ما يُقالُ حقيقةً. هكذا علَّمتْنا قصةُ إل دورادو، قصةُ الجشعِ الذي أعمى العقولَ وأهلكَ الشعوبَ. إن الثراءَ السريعَ ليس سوى فخٍّ يسقطُ فيه الحالمونَ، فمن يسعى وراءَ المالِ دون أن يبنيَ أساسًا متينًا، لن يحصدَ إلا الخيبةَ. وكما أغرتْ إل دورادو الإسبانَ حتى سقطوا في هاويةِ النسيانِ، فلا تدعْ سرابَ الثروةِ يستهلكُك، ولا تركضْ وراءَ أحلامٍ جوفاءَ، بل ابحثْ عن القوةِ الحقيقيةِ... تلكَ التي تُبنى على الحكمةِ والجهدِ، لا على الأوهامِ.

المصدر: THE 48 LAWS OF POWER, ROBERT GREEN

إقرأ أيضاً:

قصة أسطورة: بروكوست طاغية القياس وسرير الهلاك

قصة وحكمة: حيلة القائد صنّ بن وسذاجة خصمه

قصة وحكمة: الإسكندر الأكبر يحاصر مدينة صور

قصة للأطفال: هدية لا تقدر بثمن

قصة سياسية: الإسكندر وقيصر ونابليون

للمزيد            

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

قصص قصيرة معبرة 2

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

قصص قصيرة مؤثرة

الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية

إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن

استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات

أيضاً وأيضاً 

قصص وحكايات

الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور

شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور

الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها

تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات

كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها

مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق