البقاء للأذكى، لا للأقوى
في أواخر القرن السادس عشر، اجتاحت إيطاليا موجة من القمع الديني العنيف كرد فعل على الإصلاح البروتستانتي، حيث سعت الكنيسة الكاثوليكية لاستئصال أي فكر منحرف عبر محاكم التفتيش. كانت هذه المحاكم أداة بيد رجال الدين لاستئصال كل من تسول له نفسه التشكيك في التعاليم الكنسية. وبين ضحايا هذا القمع برز اسم الفيلسوف والراهب الدومينيكي توماسو كامبانيلا، الذي لاقى اضطهادًا يفوق ما تعرض له غيره، حتى من بينهم العالم الشهير جاليليو.
كان
كامبانيلا مفكراً جريئاً يؤمن بالمذهب المادي الذي استمده من الفيلسوف الروماني
إبيقور، فرفض الإيمان بالمعجزات أو الجنة أو النار، معتبراً أن الكنيسة تستخدم هذه
الأفكار كأدوات لبث الخوف في نفوس أتباعها. لم يكن يخفي معتقداته، بل جاهر بها دون
اكتراث، فكان من الطبيعي أن يقع في قبضة محاكم التفتيش. في عام 1593، صدر بحقه حكم
بالهرطقة، وبعد سنوات من الاحتجاز، تقرر تخفيف عقوبته بنفيه إلى دير في نابولي،
حيث ظل تحت الإقامة الجبرية.
لكن
كامبانيلا لم يكن مجرد فيلسوف منعزل، بل كان رجلاً ذا طموح سياسي وفكري. حينما
كانت إيطاليا الجنوبية ترزح تحت الحكم الإسباني، انخرط في مؤامرة للإطاحة بالغزاة
الإسبان، آملاً أن يتمكن من إقامة جمهورية مثالية ترتكز على أفكاره عن المدينة
الفاضلة. إلا أن محاكم التفتيش، المتحالفة مع السلطات الإسبانية، ألقت القبض عليه
مجدداً، وهذه المرة لم يكن السجن وحده عقوبته، بل جُرّد من أي رحمة وألقي في غياهب
التعذيب.
كانوا
يعلقونه من ذراعيه ويتركونه في وضع القرفصاء على مقعدٍ مُدبب، في عملية تعذيب
قاسية، حيث كان جسده يُنزَل تدريجياً حتى تمزقت عضلاته بفعل المناخس الحادة. مرّت
السنوات وهو يتلقى ألواناً من العذاب، لكنه في الوقت ذاته تعلم درساً ثميناً عن
السطوة والمكر: ليس المهم فقط ما تؤمن به، بل كيف تعبر عنه ومتى.
أدرك
كامبانيلا أن المواجهة المباشرة لا تجلب سوى الألم، فقرر أن يغير استراتيجيته. لم
يتخلَّ عن أفكاره، لكنه أصبح أكثر حذراً في التعبير عنها. ادّعى الجنون، مستغلاً
اعتقاد العصور الوسطى بأن المجنون غير مسؤول عن أقواله وأفعاله. لم تقتنع محاكم
التفتيش بسهولة، فاستمرت في تعذيبه لاختبار صحة ادعائه، لكنه أصر على لعب دوره
بإتقان حتى نجح في خداعهم. في عام 1603، تم تخفيف الحكم عليه ليصبح السجن مدى
الحياة، وهناك، مكبلاً بالأغلال في زنزانة تحت الأرض، بدأ فصل جديد من معركته
الفكرية.
لم
يكن السجن عائقاً أمامه، بل جعله أكثر إبداعاً في نشر أفكاره، ولكن بأساليب أكثر
دهاءً. كتب "المملكة الإسبانية"، وهو كتاب بدا وكأنه يمجّد إسبانيا
ويدعوها لنشر رسالتها الإلهية، لكن من يقرأه بتمعن يدرك أن فكرته الحقيقية كانت
نقداً مبطناً للسلطة الدينية والسياسية. كانت هذه الحيلة كافية لتغيير صورته أمام
الكنيسة، وبعد ست سنوات من نشر الكتاب، أصدر البابا عفواً عنه عام 1626.
لكن
كامبانيلا لم يكتفِ بذلك، بل انتقل إلى حركة أكثر جرأة وعبقرية. نشر كتاباً بعنوان
"تهافت الإلحاد"، يهاجم فيه الملحدين والكالفينيين والمكيافيليين. على
السطح، بدا الكتاب وكأنه دفاع عن الكاثوليكية، لكنه في الحقيقة كان منصة خفية لنشر
الأفكار التي حاولت الكنيسة قمعها. فقد عرض حجج "المهرطقين" بوضوح وقوة،
في حين جاءت ردوده المدافعة عن الكاثوليكية ضعيفة ومبهمة. من يقرأ الكتاب كان
ينتهي إلى التعاطف مع المهرطقين، وليس مع المدافعين عن الكنيسة.
أصبح
الكتاب، رغم عنوانه المعارض، بمثابة إنجيل للزنادقة والمفكرين الأحرار. أما رجال
الدين، فرغم شعورهم بالريبة من تأثيره، لم يستطيعوا اتهام كامبانيلا بالهرطقة، لأن
دفاعه – مهما كان ضعيفاً – اعتمد على نفس الحجج التي يستخدمونها هم أنفسهم.
هكذا
استطاع كامبانيلا النجاة من محاكم التفتيش بفضل ثلاث استراتيجيات محكمة: الأولى،
ادعاء الجنون ليكسب التعاطف وينجو من الإعدام. الثانية، تأليف كتاب يناصر أعداءه
ظاهرياً لكنه يسخر منهم في جوهره. أما الثالثة، فكانت ذروة الدهاء: مهاجمة الأفكار
التي يؤمن بها ظاهرياً، بينما يقوم في الحقيقة بنشرها والترويج لها بشكل أكثر
تأثيراً.
لقد
فهم كامبانيلا درس البقاء في عالم يضطهد الفكر الحر: لا فائدة من المجاهرة
بالحقيقة إذا كان الثمن الوحيد لذلك هو الموت. فبدلاً من أن يُقتل ليصبح مجرد
ذكرى، فضّل البقاء واستخدام الحيلة لنشر أفكاره تحت ستار الولاء للفكر السائد. كما
قال مكيافيلي ذات يوم في رسالة إلى صديقه فرانسيسكو جويشياديني: "امتنعتُ
لفترات طويلة عن قول ما أؤمن به، وقلت ما لا أصدقه. وإن حدث وقلت الحقيقة، كنت
أحرص على وضعها وسط الكثير من الأكاذيب حتى لا يستطيع أحد أن يكتشفها."
المصدر: THE 48 LAWS
OF POWER, ROBERT GREEN
قصة أسطورة: ميدوسا.. لعنة الجمال وحكم القدر
قصة وحكمة: ديغول رمز النصر الفرنسي
قصة للأطفال: فارس والكرة الأرضية
قصة أسطورة: صخرة سيزيف.. عذاب لا ينتهي
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق