الأربعاء، 12 فبراير 2025

• قصة وحكمة: بوسانيوس.. الأمير الذي غلبته ثقافة الأعداء

من أنكر أصله، ضاع

في عام 487 ق.م، انطلقت حملة عسكرية من إسبرطة إلى بلاد فارس، يقودها الأمير الشاب بوسانيوس، في مهمة للانتقام من الغزاة واستعادة المدن والجزر التي استولى عليها الفرس. كانت المدن الإغريقية قد نجحت في صدّ هجوم فارسيّ هائل، وكان على بوسانيوس، بمساندة أسطول أثيني، أن يُكمل المهمة ويثأر للإغريق.

عرف الإغريق بوسانيوس كشخصية جريئة ومحارب لا يهاب الموت، وكان يحظى بتقدير كبير بين الإسبرطيين والأثينيين على حد سواء. ومع انطلاق حملته، استطاع تحقيق انتصارات سريعة، فسيطر على صقلية، ثم واصل تقدمه نحو آسيا الصغرى، فاستولى على هيلسبونت وبيزنطة. لكن مع اتساع سلطانه، بدأت سلوكياته تتغير تدريجيًا، ليس فقط في غروره، بل في أسلوب حياته بأكمله.

شيئًا فشيئًا، أخذ بوسانيوس يتبنى عادات الفرس، متخليًا عن حياة الإسبرطيين المتقشفة. أصبح يظهر في ثياب مزينة بالعطور، تحيط به حراسة من الجنود المصريين، ويقيم موائد فاخرة، يجلس في وسطها كأنه ملك من ملوك الفرس، يطلب من رعاياه أن يسْعَوا لإرضائه.

لم يقتصر الأمر على المظاهر، بل بدأ في التواصل سرًا مع الملك الفارسي سيركسيس، وكأنه يبحث عن مكان له داخل الإمبراطورية التي جاء لمحاربتها. في البداية، ظنّ الإغريق أن تصرفاته مجرد نزوة ستنتهي، لكن عندما بدأ في إهانة طريقة عيشهم والتفاخر بأسلوب حياة الفرس، شعر الجنود بالإهانة وبدأوا يتمردون عليه سرًا. انتشرت الشائعات حول نواياه، وبدأ البعض يعتقد أنه يسعى لأن يصبح "سيركسيس الإغريق". خوفًا من التمرد، قررت إسبرطة إعفاءه من القيادة وإعادته إلى الوطن.

لكن حتى بعد عودته إلى إسبرطة، لم يتخلَّ عن عاداته الجديدة. ظل يرتدي الأزياء الفارسية، وكأنه يرفض الانصياع لثقافته الأصلية. ثم، بعد أشهر، استأجر سفينة وعاد إلى هيلسبونت، مدعيًا أنه ذاهب لاستكمال الحرب ضد الفرس، لكن الحقيقة كانت شيئًا آخر. فقد كان يسعى للقاء سيركسيس، طامحًا في أن ينصب نفسه حاكمًا على جميع مدن الإغريق بدعم فارسي.

علم الإسبرطيون بمخططه، فأرسلوا سفينة لاعتقاله. لكنه لم يُبدِ أي مقاومة، واثقًا من قدرته على تبرئة نفسه من التهمة. إلا أن المحاكمة كشفت عن تصرفاته المهينة لشعبه خلال فترة حكمه، فقد كان يرفع اسمه على النُصب التذكارية بدلاً من أسماء المدن التي قاتلت معه، ويتعامل مع الإغريق كأنهم مجرد أتباع.

ورغم كل الأدلة التي كشفت تواصله مع الفرس، لم يجرؤ الإسبرطيون على إدانته علنًا، فقد كان من سلالة النبلاء. أطلقوا سراحه، لكنه ظن أنه فوق القانون.

لم يتعلم بوسانيوس الدرس، فاستمر في خيانته، حتى أرسل رسالة جديدة إلى سيركسيس عبر أحد الرسل. لكن ذلك الرسول لم يكن مخلصًا له، بل حمل الرسالة إلى سلطات إسبرطة، التي رأت أن عليها اتخاذ إجراء حاسم. فقاموا بنصب فخ له، حيث أرسلوا الرسول ليلتقيه في معبد، بينما كانوا يسترقون السمع لما يدور بينهما.

ما سمعوه كان صادمًا، فقد تحدث بوسانيوس باحتقار شديد عن شعبه وثقافته، معترفًا صراحة بولائه للفرس. عندها، قرر الإسبرطيون اعتقاله فورًا.

عندما علم بوسانيوس أنه انكشف، فرّ هاربًا إلى أحد المعابد، طالبًا اللجوء داخله. لكن الإسبرطيين لم يقتحموا الحرم المقدس، بل حاصروه ومنعوا عنه الطعام والشراب حتى مات من الجوع والعطش. وهكذا انتهت قصة أمير لم يكن يستطيع القبول بثقافته الأصلية، فخسر كل شيء.

لم تكن نهاية بوسانيوس مجرد سقوط رجل طامح، بل كانت نتيجة حتمية لمن ينبهر بثقافة غريبة وينكر هويته الأصلية. إن التاريخ مليء بمن انجرفوا وراء تقليد الآخرين دون إدراك أنهم بذلك ينكرون أنفسهم. فليس تبني بعض العادات الجديدة مشكلة بحد ذاتها، بل المشكلة تكمن حين يتحول هذا التبني إلى احتقار للماضي، ورغبة في التماهي مع الآخر لدرجة الاغتراب عن الذات.

لقد قال المؤرخ توسيديديس عن بوسانيوس:
"
كان احتقاره للأعراف الإغريقية وتقليده لعادات الفرس سببًا في اعتقاد الناس بأنه لم يعد ينتمي إلى بلاده."

والتاريخ يؤكد هذه الحقيقة مرارًا: من يستخف بثقافته الأصلية، سيجد نفسه منبوذًا من الجميع، بلا وطن ولا انتماء.

المصدر: THE 48 LAWS OF POWER, ROBERT GREEN

إقرأ أيضاً:

قصة أسطورة: ميدوسا.. لعنة الجمال وحكم القدر

قصة وحكمة: ديغول رمز النصر الفرنسي

قصة للأطفال: فارس والكرة الأرضية

قصة أسطورة: صخرة سيزيف.. عذاب لا ينتهي

قصة وحكمة: الذئب والحصان

للمزيد            

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

قصص قصيرة معبرة 2

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

قصص قصيرة مؤثرة

الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية

إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن

استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات

أيضاً وأيضاً 

قصص وحكايات

الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور

شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور

الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها

تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات

كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها

مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق