الغرورُ مهلكةٌ، والحكمةُ منجاةٌ
في سالفِ العصورِ، حينَ كانتِ الممالكُ تتنازعُ الحكمَ، والجيوشُ تتصادمُ في معتركِ السيوفِ والرماحِ، وتلكَ هي سنّةُ الممالكِ والدولِ، كان هناكَ قائدٌ فذٌّ، يُقالُ له صنُّ بنُ، تلميذٌ مخلصٌ لصنِّ تزو الحكيمِ، قد رُزقَ دهاءَ العارفينَ وحنكةَ القادةِ المتمرّسينَ.
إذ
كان صنُّ بنُ قائداً لجيوشِ مملكةِ "شايٍ"، وقد أُوكلَ إليهِ أن يواجهَ
جحافلَ "ويٍ"، وهم أَضعافُ رجالِهِ عدداً، وأكثرُ منهم عدةً وعتاداً.
فوقفَ يتأملُ الموقفَ بعينِ الخبيرِ، وأعملَ الفكرَ في تدبيرِ المصيرِ، حتى اهتدى
إلى حيلةٍ لم يُسبقْ لها مثيلٌ، تُزلزلُ ثقةَ العدوِّ بنفسِهِ، وتُسقطُهُ في فخِّ
الغرورِ والتعجُّلِ.
فأمرَ
جنودَهُ بأنْ يُوقدوا عندَ دخولِهِم أرضَ "ويٍ" مائةَ ألفِ شعلةٍ، لتبدو
جيوشُهم عظيمةً، كثيرةَ العددِ، راسخةَ الأقدامِ، وفي الليلةِ التاليةِ، أمرَ أن
يُقلَّلَ العددُ إلى خمسينَ ألفاً، ثم في اليومِ الثالثِ ثلاثينَ ألفاً.
فلما
رأى قائدُ "ويٍ" ذلكَ، ضحكَ ملءَ شدقيهِ، وقالَ في ازدراءِ ظاهرٍ:
"كنتُ أعلمُ أنَّ جنودَ شايٍ جبناءُ، لكن ما كنتُ أظنُّهم على هذهِ الدرجةِ
من الهلعِ، إذ ها هم يفرونَ من ميدانِ القتالِ قبلَ أن نرفعَ السيوفَ!" فاغترَّ
بما رأى، وظنَّ أنَّهُ قد ظفرَ بالنصرِ قبلَ القتالِ، فاندفعَ مندفعَ الغافلينَ،
ولم يدركْ أنَّهُ قد وقعَ في شركٍ نَصَبَهُ له داهيةُ الدهاةِ.
وما
إن خُيِّلَ له أنَّ عدوَّهُ في تراجعٍ مذعورٍ، حتى بادرَ بالخروجِ بقواتٍ خفيفةِ
العتادِ، يطاردُ ما توهَّمهُ جيشاً مهزوماً، وتركَ وراءهُ المدفعيةَ الثقيلةَ التي
كانتْ عمادَ قوتهِ. ومضى مغتراً، متهوراً، حتى إذا بلغَ ممرّاً ضيقاً، حيثُ
الجبالُ تحيطُ بهِ كالأفخاخِ، باغتَهُ صنُّ بنُ بجنودِهِ الذينَ كانوا يتربصونَ
لهُ، وأحكموا عليهِ الحصارَ، وأطبقوا عليهِ كما يُطبقُ الذئبُ على فريستِهِ حينَ
تغفلُ عن الحذرِ.
وما
هيَ إلا لحظاتٌ حتى أُبيدَ الجيشُ، وسقطَ القائدُ صريعاً، وسُحقتْ فلولُهُ سَحقَ
الطغاةِ الذينَ لم يُحسنوا تقديرَ المكرِ، فصارتْ مملكةُ "ويٍ" نهباً
للمنتصرينَ، يسيرونَ فيها آمنينَ، ويكتبونَ النصرَ بأحرفٍ من نارٍ على صفحاتِ
التاريخِ.
إنَّ
الرجلَ إذا كانَ سريعَ الغضبِ، أُخذَ من بينِ يديهِ عقلُهُ، وغدا يتصرَّفُ كما
تملي عليهِ العواطفُ، وليس كما يقتضي العقلُ والحكمةُ. وأشدُّ ما يُفسدُ الرأيَ أن
يغترَّ المرءُ بقوتِهِ، ويستهينَ بخصومِهِ، فتراهُ مندفعاً بلا تروٍّ، مُعرضاً
نفسَهُ للهلاكِ.
وكذلكَ
القائدُ الحكيمُ ليسَ من يضربُ بغلظةٍ وعنفٍ، بل من يثيرُ العدوَّ ليكشفَ ضعفَهُ
بنفسهِ، ومن يُشعلُ الغرورَ في خصمِهِ حتى يهلكَ بسيفِ جهلِهِ. فكما تتحركُ
الأسماكُ حينَ يُحَرَّكُ الماءُ، فيصعدُ بعضُها إلى السطحِ، ويعضُّ بعضُها
الطُّعمَ بلا وعيٍ، فكذلكَ المغرورُ حينَ تُهيَّأُ له الفرصةُ للاندفاعِ، فإنَّهُ
يسيرُ إلى فخِّهِ بنفسِهِ، ليكونَ صيداً سهلاً لصاحبِ الحيلةِ والبصيرةِ.
وهكذا
يبقى الدرسُ خالداً: لا تُبادرْ بالهجومِ حينَ ترى خصمَكَ متحفزاً، بل اصنعْ لهُ
طُعماً، واجعلْهُ يتحركُ نحوكَ حتى تُسقطَهُ بضربةٍ لا قيامَ لهُ بعدها، فذاكَ هو
النصرُ الحقيقيُّ، نصرُ الحنكةِ على الحماقةِ، والعقلِ على الطيشِ!
قصة وحكمة: المارانوس.. قناع الرياء في محاكم التفتيش
قصة وحكمة: غضب نابليون وسخرية تاليران
قصة وحكمة: كيف أسقط هيلا سيلاسي آخر خصومه
قصة وحكمة: حكمة الملك تساو تساو في ساعة الحسم
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق