حين يُحَرِّك الدهاءُ مياهَ التَّمَرُّد
في دهاليز التاريخ، تتجلى دروس الحكم والسياسة، حيث لا تُكتسب العروش بالقوة وحدها، بل بدهاء العقول ومهارة التخطيط. هذه قصة صراع إرادات بين قائد بارع في التلاعب بالأحداث، وطامح سقط في فخ الغضب والكبرياء. إنها حكاية هيلا سيلاسي وخصمه اللدود، راس جوجسا، في صراع لم يكن مجرد معركة على العرش، بل مواجهة بين التخطيط المحكم والانفعال المتهور.
في
أواخر عشرينيات القرن الماضي، كان هيلا سيلاسي يقترب بثبات من تحقيق حلمه في
السيطرة المطلقة على إثيوبيا. كان يؤمن أن البلاد تحتاج إلى قيادة حازمة وموحدة،
وهو ما دفعه لإضعاف أمراء الحرب المتناحرين، خطوة بعد أخرى، حتى لم يتبقَ أمامه
سوى عائق واحد: الإمبراطورة زوديتو وزوجها راس جوجسا.
كان
سيلاسي مدركًا تمامًا لما يكنّه له الزوجان من عداء، وعلم أن مؤامرة التخلص منه
ليست سوى مسألة وقت. ولمواجهة هذا الخطر، قرر تحييد جوجسا بطريقة ذكية، فأبعده عن
العاصمة وعينه حاكمًا لمقاطعة بجميدر النائية. هناك، قضى جوجسا سنوات كإداري مخلص،
لكنه لم يحظَ أبدًا بثقة سيلاسي، الذي كان يرى في هدوئه الظاهري مجرد سكون يسبق
العاصفة.
لم
يكن سيلاسي ليسمح لخصمه باختيار ساحة وتوقيت المعركة، فأعدّ له شركًا محكمًا. كانت
قبيلة آذيبو جالاس الشمالية في حالة تمرد متصاعد، ترفض دفع الضرائب وتنشر الفوضى،
لكن سيلاسي لم يحرك ساكنًا لإخماد تمردهم، بل تركهم ليزدادوا قوة. وعندما حان
الوقت، أصدر أوامره إلى جوجسا ليقود حملة عسكرية لقمعهم.
شعر
جوجسا بالإهانة العميقة؛ فقد طُلِب منه مقاتلة أناس لم يكن بينه وبينهم أي عداء،
لصالح رجل يكرهه. ومع ذلك، لم يكن بوسعه الرفض، فامتثل للأمر، لكنه في الوقت ذاته
بدأ ينسج خيوط تمرده الخاص. نشر شائعة خطيرة مفادها أن سيلاسي يتآمر مع بابا
الفاتيكان لتحويل إثيوبيا إلى الكاثوليكية وجعلها مستعمرة إيطالية. كان لهذه
الدعاية أثرها الكبير، فانضمت إليه قبائل عديدة، ليبلغ تعداد جيشه 350,000
مقاتل. لكنه، بدلاً من السير شمالًا لمواجهة المتمردين الحقيقيين، قاد جحافله
جنوبًا، نحو العاصمة أديس أبابا، وأعلن حربًا مقدسة ضد سيلاسي، زاعمًا أنه يحارب
لاستعادة حكم المسيحيين الحقيقيين.
لكن
جوجسا لم يدرك أنه قد وقع في المصيدة. كان سيلاسي قد أعد كل شيء مسبقًا: ضمن دعم
الكنيسة الإثيوبية، ورشى الحلفاء الأساسيين لجوجسا لضمان تخليهم عنه عند اللحظة
الحاسمة. وعندما بدأ جيش التمرد زحفه، كانت الطائرات تحلق فوقهم، تلقي منشورات
تعلن أن الكنيسة قد باركت سيلاسي كحاكم شرعي، ونددت بجوجسا كمحرض على الحرب
الأهلية. تسللت الشكوك إلى نفوس جنوده، وتبددت جذوة الحماس التي دفعتهم إلى
التمرد. وعندما حل وقت القتال، لم يظهر الحلفاء المنتظرون، فبدأ جيش التمرد في
التراجع والهروب.
عندما
اندلعت المعركة، انهارت قوات جوجسا بسرعة. رفض الاستسلام، وقاتل بشجاعة حتى سقط
مضرجًا بدمائه. أما الإمبراطورة زوديتو، فلم تحتمل الفاجعة، فأسلمت روحها بعد أيام
قليلة من حزنه العميق على زوجها. وفي الثالث من أبريل 1930،
أعلن هيلا سيلاسي نفسه إمبراطورًا لإثيوبيا، بعدما أسدل الستار على آخر العقبات
التي وقفت في طريق طموحه.
لم
يكن انتصار سيلاسي مجرد ضربة عسكرية، بل كان انتصارًا للعقل على الاندفاع،
وللتخطيط على الغضب. أدرك أن أعظم الأخطاء هي ترك الخصوم يختارون وقت ومكان
المعركة، فدفعهم إلى المواجهة وفق شروطه، مستغلًا كبرياءهم وغضبهم. فكما قال صن
تزو منذ قرو: "على الحاكم ألا يجهز جيوشه بدافع الغضب، ولا يدخل القائد
حربًا بدافع الانتقام."
وهكذا، في عالم السياسة والحكم، لا ينتصر الأقوى فحسب،
بل الأكثر دهاءً.
المصدر: THE 48 LAWS
OF POWER, ROBERT GREEN
قصة أسطورة: سقوط إيكاروس.. حين خانت الأجنحة صاحبها
قصة وحكمة: بوسانيوس.. الأمير الذي غلبته ثقافة الأعداء
قصة وحكمة: كامبانيلا الفيلسوف الذي هزم محاكم التفتيش
قصة أسطورة: الصوف الذهبي.. مغامرة جيسون والأرجوناوت
قصة وحكمة: رحلة البحث عن السعادة
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق