الغضب يهدم الهيبة والسلطة
في دهاليز التاريخ، حيث تتشابك المصائر وتتصادم الإرادات، لا تسير العظمة دومًا على خط مستقيم. فكما أن النصر يصنع الأبطال، فإن لحظات الضعف تكشف عن معادن الرجال. نابليون بونابرت، الإمبراطور الذي هزّ أوروبا بأسرها، لم يكن استثناءً من هذه القاعدة.
في
عام 1809،
وبينما كانت أصداء مدافعه لا تزال تهز أرجاء القارة، وجد نفسه أمام مؤامرة داخلية،
لا يواجهها بِفِرَق المشاة أو بسالة الفرسان، بل بدهاء رجال السياسة الذين أجادوا
فنّ التلاعب بالولاءات. كانت تلك لحظة فارقة، لم تكتب فقط جزءًا من تاريخ
الإمبراطور، بل كانت إيذانًا ببدء الأفول.
عاد
نابليون إلى باريس على عجل، وقد اعتراه قلق لم يعتده حتى في ساحات المعارك. لم يكن
الأمر يتعلق بجبهة خارجية، بل بمؤامرة تلوح في أفق القصر، حيث ترددت الأقاويل بأن
وزير خارجيته، شارل تاليران، ووزير الشرطة، جوزيف فوشيه، يحيكان خيوط الخيانة للإطاحة
به. وما إن وطأت قدماه أرض العاصمة حتى أمر بانعقاد مجلس وزرائه، مصممًا على أن
يكشف هذه المكيدة ويضع حدًا لها.
دخل
القاعة بخطوات متوترة، وكانت عيناه تجوسان الوجوه بحثًا عن أثرٍ للخيانة. راح
يتحرك جيئة وذهابًا، يتمتم بكلمات متقطعة عن المتآمرين والمضاربين، عن العقبات
التي توضع في طريقه، وعن أولئك الذين يسعون لتقويض حكمه. وبينما كانت نبرته تتصاعد
حدة، وقف تاليران، مستندًا إلى رف المدفأة، غير عابئ بالعاصفة التي تجتاح القاعة.
عندها
التفت إليه نابليون فجأة، ووجه إليه حديثه مباشرة، قائلاً: "بدأت خيانة هؤلاء
الوزراء حين سمحوا لأنفسهم بأن يتشككوا في قائدهم". كانت التهمة واضحة، وكان
من المنتظر أن يرتعد الوزير لسماعها، لكنه لم يفعل. بل ارتسمت على شفتيه ابتسامة
مزيج من الاطمئنان والملل، كما لو كان يشاهد مسرحية مكررة.
أثار
هدوء تاليران جنون الإمبراطور، فاقترب منه خطوة وهو يصيح: "هناك وزراء يريدون
موتي"! هنا فقط، لمح ارتباكًا طفيفًا في ملامح الوزير، خطوة تراجع بها إلى
الوراء، لكنها لم تكن كافية لتهدئة العاصفة المتفجرة. فجأة، انفجر نابليون غضبًا
وصرخ في وجهه: "أنت رجل نذل، بلا مبادئ، ولا وفاء ولا ولاء! لم يمنعك شيء من
أن تغدر حتى بأبيك! لقد أغدقت عليك بالثروة والهبات، لكنك لم تتردد في إيذائي."
نظر
الوزراء إلى بعضهم البعض بذهول، فلم يسبق لهم أن رأوا الإمبراطور الجبار، المنتصر
في أكبر معارك أوروبا، بهذه الصورة من التوتر والاضطراب. أكمل نابليون كلامه وهو
يضرب الأرض بقدميه قائلاً: "أنت تستحق أن تتحطم كالزجاج! وسلطتي تمنحني
القدرة على ذلك. احتقاري لك لا حدود له! فما الذي يمنعني من شنقك على بوابة
توليري؟ الحقيقة أن الوقت لا يزال بيدي لفعل ذلك!"
أخذ
وجهه يحمر وعيناه تجحظان، بينما يتنفس بصعوبة، قبل أن يضيف بلهجة ازدراء:
"ولتعلم بالمناسبة أنك لست أكثر من حثالة في ثياب أنيقة... ماذا فعلت لزوجتك؟
أنت لم تخبرني أنها تخونك مع سان كارلوس."
رفع
تاليران رأسه، ونظر إلى الإمبراطور بثبات، ثم أجاب بهدوء بارد: "الحقيقة،
سيدي، أنني لم أرَ في ذكر ذلك ما يزيد من كرامة جلالتكم أو من كرامتي". كانت كلماته
كالسيف، ناعمة في ظاهرها، قاسية في أثرها، وكان وقعها على الحاضرين كالصاعقة.
بعد
أن نفّس نابليون عن غضبه بوابل من الشتائم والإهانات، غادر القاعة غاضبًا، بينما
بقي الوزراء في صمت مهيب. ببطء، عَبَرَ تاليران الغرفة، مستندًا على عرجه المميز،
ثم ارتدى معطفه بمساعدة أحد الخدم، والتفت إلى زملائه قائلاً ببرود ساخر:
"إنه لأمر مؤسف، أيها السادة، أن يكون لهذا الرجل العظيم ذلك الخُلُق السيئ."
لم
يأمر نابليون باعتقاله، رغم أن الغضب كاد يعميه. ظنَّ أن الإهانة العلنية عقابٌ
كافٍ لرجل مثل تاليران، لكن سرعان ما انتشرت الأقاويل في باريس، لم يتحدث الناس عن
المؤامرة، بل عن فقدان الإمبراطور لسيطرته على أعصابه، وعن الوزير الذي ظل رابط
الجأش رغم سيل الاتهامات. كانت تلك اللحظة، في نظر كثيرين، بداية النهاية، كما قال
تاليران ذاته لاحقًا.
لم
تسقط إمبراطورية نابليون بين ليلة وضحاها، لكن تلك الواقعة كانت أول شرخٍ حقيقي في
هيبته. في معارك السياسة، كما في الحروب، لا يكفي أن تملك السلطة، بل أن تحسن
استخدامها. كان يمكن لنابليون أن يتعامل مع الموقف بذكاء، أن يتساءل عن أسباب
التآمر، أن يستميل أعداءه أو يقصيهم بحزمٍ وهدوء، لكنه اختار الغضب، والغضب سلاحٌ
ذو حدين.
حين
يفقد القائد أعصابه، يفقد هيبته. وحين يُظهر ضعفه أمام خصومه، يمنحهم سلاحًا أقوى
مما قد تقدمه لهم أي مؤامرة. وهكذا، لم يكن سقوط نابليون في واترلو إلا تتويجًا
لانهيار بدأ يوم فقد أعصابه في قصره، بينما كان تاليران، برودة أعصابه التي لم
تهتز، يترقب النهاية من بعيد، بابتسامة تحمل كل معاني الخبث والانتصار.
المصدر: THE 48 LAWS OF POWER, ROBERT GREEN
قصة أسطورة: سقوط إيكاروس.. حين خانت الأجنحة صاحبها
قصة وحكمة: بوسانيوس.. الأمير الذي غلبته ثقافة الأعداء
قصة وحكمة: كامبانيلا الفيلسوف الذي هزم محاكم التفتيش
قصة أسطورة: الصوف الذهبي.. مغامرة جيسون والأرجوناوت
قصة وحكمة: رحلة البحث عن السعادة
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق