الثلاثاء، 11 فبراير 2025

• قصة أسطورة: سقوط إيكاروس.. حينما خانت الأجنحةُ صاحبَها

التوازنُ يحفظُ الحياةَ

في سالفِ العصرِ والأوانِ، وفي جزيرةِ كريتَ حيثُ ملكِها الجبارِ مينوسُ، عاشَ مهندسُ البديعِ وصانعُ العجائبِ دايدالوسُ، وابنُه الناشئُ إيكاروسُ. كان دايدالوسُ رجلًا ليس كغيرِه من الرجالِ، بل كان ذا عقلٍ وقّادٍ ويدٍ ماهرةٍ، فكانت إبداعاتهُ تسبقُ زمانَه، وتبهرُ من سمعَ عنها أو رآها.

وكانت تلكَ الأيامُ، أيامًا لم يعرفْ فيها الناسُ عرباتٍ تمخرُ الطرقاتِ، ولا ساعاتٍ تدقُّ الأوقاتَ، بل كانوا يتناقلونَ الأخبارَ همسًا في النُزُلِ والمجالسِ، ويتنقلونَ على الأقدامِ أو يمتطونَ صهواتِ الجيادِ.

وذاتَ يومٍ، صنعَ دايدالوسُ طائرًا ميكانيكيًا يزقزقُ مع بزوغِ الفجرِ، وأهداهُ للأميرةِ الوليدةِ، فطارَ الخبرُ بين الأرجاءِ، وبلغَ مسامعَ الملكِ مينوسُ، فأمرَ باستدعاءِ دايدالوسَ، وقالَ لهُ: "أيها الصانعُ الماهرُ، قد أبهرتني بحذقِك وبراعتِك، فهلْ لكَ أن تنجزَ لي عملًا لا يفنى ذكرُه؟". فأجابَهُ دايدالوسُ: "سأبذلُ كلَّ ما أوتيتُ من حيلةٍ ومهارةٍ، يا مولايَ".

وهكذا، رسمَ المهندسُ البارعُ مخططًا لمتاهةٍ عظيمةٍ، زواياها سراديبُ لا تنتهي، ودهاليزُها متاهاتٌ لا يُعرفُ لها مخرجٌ، لتكونَ سجنًا لمخلوقٍ مريعٍ، نصفُه رجلٌ ونصفُه ثورٌ، ذاكَ الذي يدعى المينوتورُ. ابتهجَ الملكُ بما أُنجزَ، لكنهُ لم يلبثْ أن أظهرَ طبعَه الجشعَ، فخشي أن تقعَ عبقريةُ دايدالوسَ في يدٍ غيرِه، فأمرَ بزجِّه هو وابنِه في كهفٍ معلقٍ فوق البحرِ، لا منفذَ له إلا من خلالِ المتاهةِ التي تحرسُها الجيوشُ، أو هاويةٍ سحيقةٍ تؤدي إلى أعماقِ الموجِ.

لم يكنْ دايدالوسُ ليجزعَ من حبسِه، فقد مُنحَ الأدواتَ والزادَ، واستغرقَ في اختراعاتِه، لكن الصبيَّ إيكاروسَ، وقد شبَّ عن الطوقِ، ضاقَ ذرعًا بسجنِه، وفي يومِ ميلادِه السادسِ عشرَ صاحَ في أبيهِ قائلًا: "أبتاهُ، لقد عشتُ في هذا القيدِ سنينَ، أريدُ أن أطوفَ البلادَ، أن أختبرَ الحياةَ، أن أذوقَ الحبَّ وأرى الشمسَ بلا قضبانٍ!".

حاولَ دايدالوسُ التوسلَ إلى الملكِ ليمنحَ الفتى حريتَه، لكن مينوسَ ردَّ بحزمٍ: "لن أطلقَ سراحَه، فإنَّ في دمِه يسري ذكاءُ أبيهِ، ولن أسمحَ لمملكةٍ أخرى بأن تستفيدَ منكما". انكسرَ قلبُ دايدالوسَ حزنًا، لكنهُ أقسمَ أن يجدَ لابنِه خلاصًا.

وبينما كانا يتأملانِ الطيورَ التي تحلقُ في السماءِ، خطرَ لدايدالوسَ خاطرٌ عجيبٌ، فتألقَ في عينَيْه بريقُ المكرِ والدهاءِ، والتفتَ إلى ابنِه قائلًا: "سنطيرُ يا بنيَّ، كما تحلقُ الطيورُ، وسنهربُ من هذا السجنِ الذي لا أبوابَ له!".

شرعَ دايدالوسُ بجمعِ الريشِ، وأخذَ يصنعُ منه جناحينِ عظيمينِ، يربطُهما بالشمعِ والخيوطِ، ويهيئُهما ليحملا صاحبَهما فوقَ أمواجِ الريحِ. وعندما آنَ أوانُ الرحيلِ، نظرَ إلى ابنِه محذرًا: "إيكاروسُ، لا تحلقْ قريبًا من البحرِ، فيبتلَّ الريشُ، ولا تقتربْ من الشمسِ، فيذيبَ الشمعُ، اتبعْني، ولا تُفرِطْ في نشوةِ الطيرانِ".

انطلقَ الاثنانِ، وطافتْ بهما الرياحُ، فارتفعا فوقَ الموجِ، وخفقَ جناحا إيكاروسَ في الهواءِ، فشعرَ بلذةِ الحريةِ، وضحكَ فرحًا حتى أنستْه نشوتُه نصيحةَ أبيهِ. وتمادى في الصعودِ، راغبًا أن يعانقَ الشمسَ، متوهِّمًا أنَّه صارَ سيدَ السماءِ، حتى بدأ الشمعُ يذوبُ، وتفلتَ الريشُ من جناحَيْهِ، فتبددَ حلمُه في الهواءِ.

أدركَ إيكاروسُ هلاكَه، وصرخَ باسمِ أبيهِ، لكنَّ الوقتَ كان قد فاتَ، وخرَّ من الأعالي سقوطًا مدويًا، فابتلعَه البحرُ بين أمواجِه العاتيةِ. هرعَ دايدالوسُ إلى الشاطئِ، وعيناهُ تفتشانِ في الماءِ عن أثرٍ لابنِه، فلم يجدْ سوى بعضِ الريشِ يطفو فوقَ سطحِ الموجِ، فجلسَ على الرمالِ ينتحبُ، وتحطمَ قلبُه حسرةً وندمًا.

وبعدَ أن هدأتْ عواصفُ الفقدِ، أقسمَ أن يخلِّدَ ذكرى ابنِه، فأطلقَ على تلكَ الأرضِ اسمَ "إيكاريا"، وبنى فيها معبدًا للإلهِ أبولو، وعلَّقَ فيه جناحيهِ، متعهِّدًا ألا يطيرَ مرةً أخرى، فقد كان الطيرانُ خلاصَه، لكنهُ أيضًا كان أعظمَ ندمِه.

وهكذا، تناقلَ الناسُ قصةَ الفتى الذي حلقَ بأحلامِه عاليًا، حتى احترقَ بجموحِه، ليكونَ عبرةً لمن يطمعُ فيما يفوقُ طاقتَه، فلا يزهوَ بقوتِه حتى تجرفَه الأقدارُ إلى الهلاكِ.


إقرأ أيضاً:

قصة أسطورة: ميدوسا.. لعنة الجمال وحكم القدر

قصة وحكمة: ديغول رمز النصر الفرنسي

قصة للأطفال: فارس والكرة الأرضية

قصة أسطورة: صخرة سيزيف.. عذاب لا ينتهي

قصة وحكمة: الذئب والحصان

للمزيد            

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

قصص قصيرة معبرة 2

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

قصص قصيرة مؤثرة

الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية

إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن

استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات

أيضاً وأيضاً 

قصص وحكايات

الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور

شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور

الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها

تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات

كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها

مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق