الحِيلةُ لا تُبرِّر الخِيانة
كانَ يا ما كان، في سالِفِ العَصْرِ وَالأوَان، تاجِرٌ مِنْ ذَوِي المالِ وَاليَسارِ، عَزَمَ على السَّفَرِ البَعيدِ، وَشَدَّ الرِّحَالَ إِلَى آفَاقٍ بَعِيدَةٍ، وَقَبْلَ ارْتِحَالِهِ اسْتَوْدَعَ عِنْدَ صَدِيقٍ لَهُ دِرْعاً مِنَ الحَدِيدِ، لَهُ قِيمَةٌ عَظِيمَةٌ فِي ثَرْوَتِهِ، وَحِمْلٌ ثَقِيلٌ عَلَى عَاتِقِهِ، وَطَلَبَ إِلَيْهِ أَنْ يَحْفَظَهُ أَمَانَةً حَتَّى يَعُودَ.
وَمَرَّتِ
الشُّهُورُ وَانْقَضَتِ الأَيَّامُ، وَعَادَ التَّاجِرُ يَمْلَؤُهُ الحَنِينُ
إِلَى مَوْطِنِهِ، وَمَا إِنْ وَطِئَتْ قَدَمَاهُ أَرْضَ الدِّيَارِ حَتَّى قَصَدَ
صَدِيقَهُ لِيَأْخُذَ أَمَانَتَهُ. فَلَمَّا طَلَبَ مِنْهُ دِرْعَ الحَدِيدِ،
تَنَحْنَحَ الصَّدِيقُ وَتَثَاقَلَ، ثُمَّ قَالَ لَهُ بِكُلِّ ادِّعَاءٍ:
"آه، يا صَاحِبِي، لَقَدْ غَزَتِ الفِئران بَيْتِي، وَمَا مِنْ شَيْءٍ
حَصِينٍ يَرُدُّ بَطْشَهَا، فَالْتَهَمَتِ الحَدِيدَ وَأَبَادَتْهُ!"
صَمَتَ
التَّاجِرُ لَحْظَةً، وَهُوَ يَحْبِسُ ضِحْكَةً فِي دَاخِلِهِ، ثُمَّ رَدَّ
بِصَوْتٍ يَمْلَؤُهُ الرِّضَا: "يَا لَلْعَجَبِ، مَا أَغْرَبَ حَوَادِثَ
الدَّهْرِ، قَدْ تَحْدُثُ هَذِهِ الأُمُورُ، وَلَعَلَّ فِي الأَقْدَارِ حِكْمَةً."
ثُمَّ
انْصَرَفَ التَّاجِرُ مُتَوَارِيًا عَنْ غَضَبِهِ وَحَنَقِهِ، وَصَمَّمَ أَنْ
يُلَقِّنَ صَاحِبَهُ دَرْسًا فِي الأَمَانَةِ. وَفِي صَبِيحَةِ اليَوْمِ
التَّالِي، تَسَلَّلَ إِلَى دَارِ صَدِيقِهِ فِي غِيَابِهِ، وَأَخَذَ وَلَدَهُ
الصَّغِيرَ إِلَى مَعْرِضٍ فِي السُّوقِ، وَكَأَنَّمَا يُخْفِي كَنْزًا ثَمِينًا.
وَلَمَّا
عَادَ الصَّدِيقُ إِلَى بَيْتِهِ وَلَمْ يَجِدْ وَلَدَهُ، ثَارَ فَزَعُهُ وَحَلَّ
فِي قَلْبِهِ الرُّعْبُ، فَأَسْرَعَ إِلَى بَيْتِ التَّاجِرِ هَائِجًا مَائِجًا،
وَقَالَ لَهُ: "أَيْنَ وَلَدِي؟" فَرَدَّ عَلَيْهِ التَّاجِرُ وَقَدْ
مَلَأَتْهُ السَّكِينَةُ وَقَالَ: "آه، لَقَدْ أَلَمَّ بِنَا حَادِثٌ
عَجِيبٌ، فَفِي لَحْظَةٍ مِنَ اللَّحَظَاتِ، هَبَطَ صَقْرٌ مِنَ السَّمَاءِ،
فَخَطَفَ ابْنَكَ فِي المَعْرِضِ وَطَارَ بِهِ بَعِيدًا."
احْتَدَّ
الصَّدِيقُ صَارِخًا: "أَيُّهَا المُحْتَالُ! أَيُعْقَلُ أَنْ يَحْمِلَ
صَقْرٌ غُلَامًا؟ هَذَا مُسْتَحِيلٌ!" فَأَجَابَهُ التَّاجِرُ بِبُرُودٍ
وَهُوَ يَبْتَسِمُ ابْتِسَامَةً لَا تَخْلُو مِنَ المَكْرِ: "وَهَلْ كَانَ
أَكْلُ الفِئْرَانِ لِلْحَدِيدِ مُمْكِنًا؟ فَإِنْ كَانَتِ الفِئْرَانُ قَدْ
أَكَلَتْ دِرْعاً مِنَ الحَدِيدِ، فَلِمَ لَا يَكُونُ الصَّقْرُ قَدِ اخْتَطَفَ
وَلَدًا؟"
سَكَتَ
الصَّدِيقُ وَلَمْ يَجِدْ جَوَابًا، وَلَكِنَّ الغَيْظَ قَدْ بَلَغَ بِهِ
مَبْلَغَهُ، فَمَا كَانَ مِنْهُ إِلَّا أَنْ ذَهَبَ إِلَى قَاضِي البَلْدَةِ،
يَبْغِي نَصْرًا وَمُغِيثًا، لِيَعْرِضَ عَلَيْهِ قَضِيَّتَهُ، وَيَشْكُو ظُلْمَهُ
وَظُلَامَتَهُ.
فَلَمَّا
سَمِعَ القَاضِي الحِكَايَةَ، أَمْعَنَ النَّظَرَ ثُمَّ قَالَ: "إِنْ كُنْتَ
أَيُّهَا الصَّدِيقُ صَدَّقْتَ أَنَّ الفِئْرَانَ قَدْ أَكَلَتِ الحَدِيدَ، فَمَا
الَّذِي يَمْنَعُ مِنْ أَنْ يَحْمِلَ الصَّقْرُ غُلَامًا؟"
حِينَئِذٍ
تَرَاجَعَ الصَّدِيقُ خَجِلًا، وَاعْتَرَفَ بِخَطِيئَتِهِ، وَاسْتَدْرَكَ
قَائِلًا: "لَقَدْ بِعْتُ دِرْعَ الحَدِيدِ، وَلَمْ تَأْكُلْهُ الفِئْرَانُ."
فَحَكَمَ
القَاضِي بِإِرْجَاعِ حَقِّ التَّاجِرِ إِلَيْهِ، وَأَمَرَ الصَّدِيقَ بِدَفْعِ
ثَمَنِ الدِّرعِ كَامِلًا، وَعَادَ التَّاجِرُ مُنْتَصِرًا قَدْ أَنْصَفَهُ
القَضَاءُ وَأَعَادَتْ لَهُ عَدَالَةُ المَلِكِ مَا سَلَبَهُ غَدْرُ الأَصْدِقَاءِ.
وَهَكَذَا
طُوِيَتْ قِصَّةُ الحَدِيدِ وَالفِئرانِ، فَكَانَتْ عِبْرَةً لِكُلِّ مَنْ خَانَ،
وَدَرْسًا لِكُلِّ مَنْ اسْتَحْلَى المَكْرَ وَالبُهْتَانِ.
قصة وحكمة: الراعي والماعز البري
قصة وحكمة: الدبابير والحجل والمزارع
قصة وحكمة: صيّاد الطيور وصيّاد السَّمك
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق