العَسَلُ في الصَّبرِ
فِي سَالِفِ العَصْرِ وَالأَوَانِ، حِينَ كَانَتِ الأَرْضُ تَرْوِي حِكَايَاتِهَا لِلسَّمَاوَاتِ، عَاشَ فِي إِحْدَى القُرَى فَلَّاحٌ بَسِيطٌ، مَلَأَ قَلْبَهُ الأَمَلُ، لَكِنَّ صَبْرَهُ كَانَ شَحِيحًا. كَانَ لِلْفَلَّاحِ شَجَرَةُ تُفَّاحٍ بَاسِقَةُ الجِذْعِ، وَارِفَةُ الظِّلَالِ، تَمْتَدُّ أَغْصَانُهَا كَأَنَّهَا تُعَانِقُ السَّمَاءَ، وَلَكِنَّهَا – وَيَا لَلْعَجَبِ – لَمْ تَهَبْ ثَمَرًا قَطُّ، لَا تُفَّاحَةً نَضِرَةً، وَلَا حَتَّى زَهْرًا يَعِدُ بِعَطَاءٍ.
وَمَعَ
ذَلِكَ، كَانَتْ تِلْكَ الشَّجَرَةُ مَسْكَنًا لِعَصَافِيرَ صَدَحَتْ
بِالأَلْحَانِ كَأَنَّهَا تَرَانِيمُ السِّحْرِ، وَمَلَاذًا لِلْجَنَادِبِ الَّتِي
رَقَصَتْ حَوْلَ جُذُورِهَا فِي احْتِفَالَاتٍ لَا تَنْقَطِعُ. وَلَكِنَّ
الفَلَّاحَ، وَقَدْ مَلَّ الِانْتِظَارَ، عَزَمَ أَمْرَهُ وَقَالَ فِي نَفْسِهِ: "مَا
نَفْعُ شَجَرَةٍ لَا تُطْعِمُ؟ لَنْ أَتْرُكَهَا تَقِفُ فِي أَرْضِي عَبَثًا".
فَيَمَّمَ
صَوْبَ مَخْزَنِهِ، وَاسْتَلَّ فَأْسًا حَادَّ النَّصْلِ، وَسَارَ بِخُطًى
حَازِمَةٍ نَحْوَ الشَّجَرَةِ العَتِيقَةِ. وَحِينَ وَصَلَ إِلَيْهَا، اعْتَلَى
الغَضَبُ مَلَامِحَهُ، وَرَفَعَ الفَأْسَ عَالِيًا لِيَهْوِيَ بِهِ عَلَى
جُذُورِهَا. وَمَا إِنْ لَامَسَ النَّصْلُ أَوَّلَ ضَرْبَةٍ حَتَّى تَرَدَّدَ فِي
الأَجْوَاءِ صَوْتُ جَوْقَةٍ مِنَ الِاسْتِغَاثَةِ، وَكَأَنَّ الطَّبِيعَةَ
انْتَفَضَتْ.
صَاحَتِ
العَصَافِيرُ بِشَدْوٍ يَشُوبُهُ الحُزْنُ: "لَا تَقْتَلِعْ مَأْوَانَا، يَا
صَاحِبَ الأَرْضِ وَالفَضْلِ! نَحْنُ نُزَيِّنُ نَهَارَكَ بِالأَلْحَانِ،
وَنَمْلَأُ قَلْبَكَ بِالأُنْسِ وَالحَنَانِ". وَأَضَافَتِ الجَنَادِبُ
بِرَجَاءٍ رَقَّ لَهُ الحَجَرُ: "دَعْنَا نَعِيشُ حَوْلَكَ، وَسَتَرَى مِنَّا
سُرُورًا لَا يَنْضَبُ".
وَلَكِنَّ
الفَلَّاحَ، وَقَدِ اسْتَبَدَّتْ بِهِ الرَّغْبَةُ، لَمْ يُصْغِ لِنِدَاءَاتِهِمْ.
أَنْزَلَ الفَأْسَ بِقُوَّةٍ مَرَّةً، وَاثْنَتَيْنِ، وَثَلَاثًا. وَحِينَ كَانَ
يَسْتَعِدُّ لِضَرْبَةٍ أُخْرَى، أَوْقَفَتْهُ عَيْنَاهُ فَجْأَةً عِنْدَ
تَجْوِيفٍ غَرِيبٍ فِي جِذْعِ الشَّجَرَةِ. اقْتَرَبَ لِيَجِدَ مَشْهَدًا
مُذْهِلًا: خَلِيَّةُ نَحْلٍ مُتَلَأْلِئَةٌ بِالعَسَلِ، تَسْكُبُ مِنْ رَحِيقِهَا
الذَّهَبِيِّ شَذًى لَا يُضَاهِيهِ شَيْءٌ.
دَاعَبَ
الفُضُولُ قَلْبَ الفَلَّاحِ، فَغَمَسَ إِصْبَعَهُ فِي العَسَلِ وَتَذَوَّقَهُ،
فَإِذَا بِهِ أَشْهَى مِمَّا تَاقَتْ إِلَيْهِ نَفْسُهُ يَوْمًا، طَعْمٌ يَرْوِي
الرُّوحَ قَبْلَ الحَلْقِ. وَقَفَ الفَلَّاحُ مَأْخُوذًا بِمَا رَأَى، وَأَلْقَى
الفَأْسَ بَعِيدًا، نَادِمًا عَلَى فَوْرَةِ غَضَبِهِ.
وَمُنْذُ
ذَلِكَ الحِينِ، تَغَيَّرَتْ نَظْرَتُهُ لِتِلْكَ الشَّجَرَةِ. بَاتَ يَعْتَنِي
بِهَا، يَسْقِيهَا المَاءَ، وَيُحِيطُهَا بِالرِّعَايَةِ. وَبَقِيَتِ الشَّجَرَةُ
شَامِخَةً فِي أَرْضِهِ، تُقَدِّمُ المَأْوَى لِرِفَاقِهَا مِنَ الطُّيُورِ
وَالجَنَادِبِ، تَهْدِي صَاحِبَهَا العَسَلَ، وَتَمْلَأُ أَيَّامَهُ بِأَلْحَانِ
الطَّبِيعَةِ وَرَقَصَاتِهَا، لِيُصْبِحَ بِذَلِكَ فَلَّاحًا لَا يَطْلُبُ مِنَ
الأَرْضِ سِوَى أَنْ تَهَبَهُ الحُبَّ الَّذِي يَمْنَحُهَا.
وَهَكَذَا،
صَارَتِ الشَّجَرَةُ رَمْزًا لِصَبْرٍ تَعَلَّمَهُ الفَلَّاحُ، وَلِعَطَاءٍ
يَظْهَرُ حِينَ لَا نَتَوَقَّعُهُ، وَلِلحِكْمَةِ القَائِلَةِ: "لَيْسَ كُلُّ
عَطَاءٍ فِي الثَّمَرِ، فَهُنَاكَ أَرْزَاقٌ تَفِيضُ بِأَلْوَانٍ لَا تُرَى إِلَّا
لِمَنْ صَبَرَ وَتَأَمَّلَ".
قصة وعبرة: الرجل العجوز وحفيده
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق