المعرفةُ تستحقُ التضحية
في غابرِ الأزمانِ، وقبل أن يستفيقَ الليلُ عن صبحٍ، وُلِدَ بروميثيوس من سلالةِ الجبابرةِ العظامِ، وخلّدتهُ الأساطيرُ اليونانيةُ كصديقٍ للبشرِ وأوّلِ من عصى الآلهةَ.
حين
كانَ الإنسانُ الأوّلُ هائمًا على وجههِ في دروبِ الظلامِ، يترقّبُ بعيونٍ جاحظةٍ
رهبةَ الرعدِ وصواعقَ السماءِ، ويراقبُ بقلوبٍ وجلةٍ حركةَ الشمسِ وهي تُسحبُ عبرَ
الأفقِ بينَ المشرقِ والمغيبِ، وجدَ في قواهُ المادّيةِ والوَهنِ ضعفًا أمامَ
قُوًى غامضةٍ، لا يفقهُ منها سوى صخبِها وعصفِها. ولأنّهم رأوا أنفسَهم في مهبِّ
الريحِ لا حولَ لهم ولا قوةَ، نسبوا كلَّ ما جهلتْهُ عقولُهم إلى
"الآلهةِ" التي ترسلُ الغيثَ تارةً، وتُنزِلُ الصواعقَ والموتَ تاراتٍ
أخرى.
وكان
زيوسُ، كبيرُ الآلهةِ، قد خاضَ حربًا ضروسًا على الجبابرةِ، وانتصرَ عليهم بنارِ
الغضبِ والصاعقةِ، وفرضَ عليهم حكمَهُ، فجعلَ بروميثيوسَ وأخاهُ إبيميثيوسَ من
أعوانِهِ، وكلّفَهما بخلقِ البشرِ وسائرِ الكائناتِ، ليحيَوا على الأرضِ،
يعمرونَها ويذوقونَ من ثمارِها. مضى إبيميثيوسُ، الذي يعني اسمُهُ "التفكيرَ
المتأخّرَ"، ووزّعَ على الحيوانِ كلَّ ما يلزمُ للبقاءِ، من الريشِ الوارفِ
إلى الفروِ الواقي، ووهبَها القوةَ والشجاعةَ، والغريزةَ والسرعةَ. وحين فرغَ من
عطاياهُ تلكَ، وشرعَ بخلقِ الإنسانِ، تبيّنَ له أن يديهِ قد خوتا من كلِّ ما
يُعينُ البشرَ على الحياةِ، إذ بذلَ كلَّ مقدّراتِهِ للحيوانِ!
وهنا،
لجأ إبيميثيوسُ إلى أخيهِ بروميثيوسَ، صاحبِ "النظرةِ السابقةِ"، فنظرَ
بروميثيوسُ إلى الإنسانِ بعينِ المحبةِ والعطفِ، وقرّرَ أن يرفعَ مقامَهُ بينَ
الكائناتِ؛ جعلَهُ يمشي على قدمينِ، شامخَ الرأسِ، مرفوعَ الهامةِ، ووهبَهُ العقلَ
ليتفكرَ ويتأملَ، ويتجاوزَ حدودَ الغريزةِ.
ثم
كانت خطيئةُ بروميثيوسَ الكبرى، حين جرؤَ وأضرمَ شعلةً من نارِ الآلهةِ، تلك
النارِ التي أسبغت على الأولمبِ مجدَهم، سرقَها وأهدى بها البشرَ، ليكونَ لهم
نورًا يهديهم في ليلِهم، ومعرفةً تنيرُ ظلمتَهم، ودفئًا يقيهم بردَ الشتاءِ. وما
أن اشتعلتْ شعلةُ النارِ في الأرضِ، حتى ارتفعَ الغضبُ في زيوسَ كالموجِ الهائجِ،
وصبَّ سخطَهُ على بروميثيوسَ، إذ رأى فيهِ تجاوزًا على سلطانِ الآلهةِ.
ثم
عمدَ بروميثيوسُ إلى خداعِ زيوسَ، فقدّمَ لهُ ثورًا ضخمًا مقسومًا إلى كومتينِ:
إحداهما مغطاةٌ بالأحشاءِ وتحتها اللحمُ الطريُّ، والأخرى مغطاةٌ بالدهنِ، تحوي
العظمَ الصلبَ. وعرضَ الأمرَ على زيوسَ، فاختارَ زيوسُ الكومةَ الثانيةَ، ليتفاجأَ
بعدَ ذلك أنها كانتْ حيلةً، إذ احتوتْ على العظامِ لا غير. ومنذُ ذلكَ اليومِ،
باتتِ القرابينُ للآلهةِ تُحرقُ من الدهنِ والعظامِ، بينما بقيَ اللحمُ حصةَ
البشرِ.
لكن
زيوسَ لم يتركْ بروميثيوسَ دون عقابٍ؛ فقَيَّدهُ بالسلاسلِ إلى صخرةٍ في جبالِ
القوقازِ، وسلّط عليهِ نسرًا جارحًا ينهشُ كبدَهُ كلَّ يومٍ، وما تلبثُ أن تلتئمَ
جراحُهُ في الليلِ ليعودَ النسرُ في الصباحِ ينهشُها من جديدٍ، في دوامةٍ لا تنتهي
من العذابِ. هكذا ظلَّ بروميثيوسُ مقيّدًا، يُعذّبُ كلَّ يومٍ، حتى جاءَ هيركوليس
(هرقل)، البطلُ المغوارُ، وتحدَّى قوى الآلهةِ ليحرّرَهُ من أغلالِهِ، مُسَطِّرًا
صفحةً أخرى من الشجاعةِ في ميثولوجيا الآلهةِ والبشرِ.
وهكذا
بقيتْ قصةُ بروميثيوسَ عبر الأجيالِ رمزًا لصمودِ الإنسانِ، وإصرارِهِ على امتلاكِ
المعرفةِ، وتحديِهِ لكلِّ ما يعوقُ حريةَ إرادتِهِ، حتى لو كانَ ثمنَ ذلك غضبَ
الآلهةِ ذاتِها.
المصدر: أساطير الإغريق
قصة وحكمة: الفئران التي أكلت الحديد
نوادر العرب: الحمّال الذي أصبح والياً
قصة أُسطورة: زيوس وهيرا: صراع الآلهة
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق