عاقِبَةُ الطَّمَع
كانَ يا ما كانَ، في سالفِ العَصرِ والأوانِ، تاجِرٌ ثَرِيٌّ ذو مالٍ وجاهٍ، ولكِنَّهُ كانَ أَسِيرَ الطَّمَعِ والجَشَعِ، لا يَشْبَعُ مِن كُنُوزِ الدُّنْيَا ولا يَرْضَى بِما رَزَقَهُ اللهُ. وكانَ ذلِكَ التَّاجِرُ قدْ عادَ لتَوِّهِ مِن رِحْلَةِ تِجَارَةٍ طَوِيلَةٍ، جَابَ فيها بِلَادًا بَعِيدَةً، وباعَ فيها التَّوَابِلَ النَّادِرَةَ، وقدْ عادَ قَافِلًا إلى دِيَارِهِ بِصُحْبَةِ أَرْبَعِينَ جَمَلًا مُحَمَّلَةً بِالبَضَائِعِ النَّفِيسَةِ.
وفي
طَرِيقِ عَوْدَتِهِ، عَبَرَ صَحْرَاءَ قَاحِلَةً لا أَنِيسَ فِيهَا ولا حَيَاةَ،
لَمَحَ شَيْخًا وَقُورًا، تُجَلِّلُهُ هَيْبَةُ السِّنِين وَحِكْمَةُ الزَّمَانِ،
جَالِسًا عِندَ حَافَةِ الطَّرِيقِ. نَادَى الشَّيْخُ التَّاجِرَ بِصَوْتٍ رَخِيمٍ:
"أيُّهَا
التَّاجِرُ، أَرَاكَ عَائِدًا مِن سَفَرِكَ بِالخَيْرِ الوَفِيرِ، ولكِنِّي
أَحْمِلُ لَكَ سِرًّا أَعْظَمَ مِمَّا تَظُنُّ! أَعْلَمُ مَكَانًا خَفِيًّا بَيْنَ
الجِبَالِ، كَنْزًا لا يُعَادِلُهُ كَنْزٌ، جَوَاهِرُ بَرَّاقَةٌ وَذَهَبٌ يُفوقُ
الخَيَالَ. فَإِنْ تَبِعْتَنِي، دَلَلْتُكَ عَلَيْهِ، ولكِنْ بِشَرْطٍ: أَنْ
تَقْسِمَ لِي بِنَصِيبٍ، نِصْفَ مَا تَحْمِلُهُ جِمَالُكَ."
لَمَعَتْ
عَيْنَا التَّاجِرِ، وَاشْتَعَلَتْ نِيرَانُ الطَّمَعِ فِي قَلْبِهِ، فَوَافَقَ
دُونَ تَرَدُّدٍ، مُتَجَاهِلًا حِكْمَةَ الرَّجُلِ وَمَهَابَتَهُ، وَمُتَشَوِّقًا
لِلكُنُوزِ الَّتِي وَصَفَهَا.
سَارَ
الرَّجُلَانِ سَاعَاتٍ طِوَالًا حَتَّى بَلَغَا قَلْبَ الجِبَالِ، إِلَى مَكَانٍ
تُغْشِيهِ رَهْبَةٌ وَسَكِينَةٌ، لا يُسْمَعُ فِيهِ إِلَّا هَمْسُ الرِّيحِ بَيْنَ
الصُّخُورِ. أَخْرَجَ الشَّيْخُ مِن حَقِيبَتِهِ صُنْدُوقًا عَتِيقًا صَغِيرًا،
بَدَا كَأَنَّهُ مِنْ صُنْعِ عُصُورٍ غَابِرَةٍ، وَفَتَحَ غِطَاءَهُ بِرِفْقٍ،
ثُمَّ نَثَرَ مِنْهُ مَسْحُوقًا مُتَلَأْلِئًا عَلَى الأَرْضِ، مُرَدِّدًا
كَلِمَاتٍ غَامِضَةً لا يَفْهَمُهَا إِلَّا هُوَ.
وَيَا
لَلْعَجَبِ! انْشَقَّ الجَبَلُ أَمَامَهُمَا، وَظَهَرَتْ بَوَّابَةٌ عَظِيمَةٌ
تُؤَدِّي إِلَى كَهْفٍ يَفِيضُ بِكُنُوزٍ لا تُحْصَى: أَحْجَارٌ كَرِيمَةٌ
كَالنُّجُومِ، وَعُمْلَاتٌ ذَهَبِيَّةٌ تُضِيءُ كَالشَّمْسِ. فَغَرَ التَّاجِرُ
فَاهُ دَهْشَةً، وَلَمْ يَنْتَظِرْ طَوِيلًا، بَلْ انْكَبَّ يَجْمَعُ الكُنُوزَ
بِلَهْفَةٍ عَارِمَةٍ، مُحَمِّلًا جِمَالَهُ حَتَّى امْتَلَأَتْ عِشْرُونَ مِنْهَا.
لكنَّ
التَّاجِرَ، وقَدْ أَعْمَى الطَّمَعُ قَلْبَهُ، لَمْ يَقْنَعْ بِمَا جَمَعَ.
فَقَالَ لِلرَّجُلِ المُقَدَّسِ:
"أيُّهَا الشَّيْخُ، أَنْتَ زَاهِدٌ فِي
الدُّنْيَا، لا حَاجَةَ لَكَ بِكُلِّ هَذَا! دَعْنِي آخذْ ثَلاثِينَ جَمَلًا،
وَاتْرُكْ لَكَ عَشَرَةً."
تَنَهَّدَ
الشَّيْخُ بِحُزْنٍ وَقَالَ: "خُذْ مَا تَشَاءُ، وَلَعَلَّ اللهَ
يَهْدِيكَ." لكِنَّ التَّاجِرَ لَمْ يَتَوَقَّفْ عِنْدَ هَذَا الحَدِّ،
فَازْدَادَ جَشَعًا وَقَالَ:
"مَا حَاجَتُكَ إِلَى عَشَرَةِ جِمَالٍ؟
أَعْطِنِي الأَرْبَعِينَ كُلَّهَا، وَخُذْ مَا تَسْتَطِيعُ حَمْلَهُ بِيَدَيْكَ
فَقَطْ."
أَطْرَقَ
الشَّيْخُ بِرَأْسِهِ وَوَافَقَ، وَهُوَ يُدْرِكُ أَنَّ التَّاجِرَ يُوشِكُ عَلَى
السُّقُوطِ فِي هُوَّةٍ صَنَعَهَا بِنَفْسِهِ. لكِنَّ طَمَعَ التَّاجِرِ لَمْ
يَقِفْ هُنَا، بَلْ وَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى الصُّنْدُوقِ العَتِيقِ بَيْنَ يَدَيْ
الشَّيْخِ، وَقَالَ بِجَشَعٍ:
"هَذَا الصُّنْدُوقُ، إِنَّهُ سِرُّ
الكَنْزِ كُلِّهِ. أَعْطِنِي إِيَّاهُ أَيْضًا!"
ابْتَسَمَ
الشَّيْخُ بِحِكْمَةٍ وَقَالَ: "لَكَ مَا طَلَبْتَ، وَلَكِنْ إِيَّاكَ أَنْ
تَسْتَهِينَ بِمَا فِيهِ. هَذَا المَسْحُوقُ عَجِيبٌ، إِنْ رَشَشْتَهُ فِي
عَيْنِكَ اليُمْنَى، سَتَرَى كُلَّ شَيْءٍ حَوْلَكَ ذَهَبًا. لَكِنْ حَذَارِ، إِنْ
أَصَابَتْ عَيْنَكَ اليُسْرَى، سَتَغْدُو أَعْمَى لا تَرَى شَيْئًا."
اسْتَوْلَى
التَّاجِرُ عَلَى الصُّنْدُوقِ بِفَرْحَةٍ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ لِتَحْذِيرَاتِ الشَّيْخِ.
وَمَا إِنِ اخْتَفَى الرَّجُلُ المُقَدَّسُ عَنِ الأَنْظَارِ، حَتَّى قَرَّرَ
التَّاجِرُ اخْتِبَارَ المَسْحُوقِ. نَثَرَ قَلِيلًا مِنْهُ فِي عَيْنِهِ
اليُمْنَى، وَفِي لَحْظَةٍ، تَحَوَّلَ كُلُّ مَا حَوْلَهُ إِلَى ذَهَبٍ:
الرِّمَالُ، الصُّخُورُ، وَحَتَّى الجِمَالُ، كُلُّ شَيْءٍ لَمَعَ بِبَرِيقِ
الذَّهَبِ. هَتَفَ التَّاجِرُ بِفَرَحٍ جُنُونِيٍّ: "لَقَدْ مَلَكْتُ
الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا!"
ولكِنَّهُ
لَمْ يَكْتَفِ، فَحَدَّثَ نَفْسَهُ: "إِنْ كَانَتْ عَيْنِي اليُمْنَى قَدْ
جَعَلَتْنِي أَرَى كُلَّ شَيْءٍ ذَهَبًا، فَمَاذَا سَيَحْدُثُ لَوِ اسْتَخْدَمْتُ
العَيْنَ الأُخْرَى؟ رُبَّمَا أَمْتَلِكُ قُوَّةً أَعْظَمَ!"
لَمْ
يَنْتَظِرْ طَوِيلًا، بَلْ نَثَرَ المَسْحُوقَ عَلَى عَيْنِهِ اليُسْرَى. وَهُنَا،
حَدَثَ مَا لَمْ يَكُنْ فِي الحُسْبَانِ. أَظْلَمَ العَالَمُ مِنْ حَوْلِهِ،
وَغَرِقَ فِي ظَلَامٍ دَامِسٍ. لَقَدْ فَقَدَ بَصَرَهُ تَمَامًا، وَوَقَفَ فِي
وَسَطِ الكَنْزِ كَالأَعْمَى فِي الظُّلُمَاتِ، لا يَهْتَدِي لِطَرِيقٍ وَلا
يَعْرِفُ أَيْنَ يَذْهَبُ.
هُنَا،
أَدْرَكَ التَّاجِرُ أَنَّ طَمَعَهُ كَانَ سَبَبَ هَلاَكِهِ، وَلَكِنْ بَعْدَ
فَوَاتِ الأَوَانِ. تَرَكَهُ الشَّيْخُ لِيُوَاجِهَ مَصِيرَهُ، عِظَةً لِمَنْ
يَطْغَى وَيَجْحَدُ النِّعَمَ.
وَهَكَذَا،
انْطَوَتْ صَفْحَةُ التَّاجِرِ الجَشِعِ، لِيَبْقَى دَرْسًا لِلعِبْرَةِ، يُرْوَى
فِي مَجَالِسِ الحُكَمَاءِ عَنْ نِهَايَةِ الطَّمَعِ وَنُكْرَانِ العَهْدِ.
قصة وعبرة: الرجل العجوز وحفيده
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق