حِكمةُ الاختيارِ وصِدقُ الهُويةِ
في زمنٍ بعيدٍ، إذ الطيورُ ترفرفُ في الأجواءِ والنسماتُ تلثمُ الحقولَ والوديانَ، كان هناك طائرٌ يحملُ في منقارهِ فأرًا صغيرًا، انزلقَ منهُ دونَ قصدٍ، وهبطَ في يدِ رجلٍ حكيمٍ، عُرفَ بالتقوى وحُسنِ السريرةِ. ما إن رأى الرجلُ الفأرَ الصغيرَ يتلوى من الخوفِ والضعفِ، حتى حنَّ قلبُه وأخذتْه شفقةُ الأبرارِ، فابتسمَ، وأشفقَ عليه كأنه ينظرُ إلى كائنٍ بائسٍ أرهقتْه الحياةُ. رفعَ عصاهُ السحريةَ، وبضربةٍ من ضرباتِها التي لا تخطئُ، حوَّل الفأرَ إلى فتاةٍ فاتنةِ الجمالِ، بهيةِ الطلعةِ.
اعتنى
الرجلُ الحكيمُ بالفتاةِ كابنتِهِ، أحاطها بعطفِهِ، ورعاها كأنها زهرةٌ نشأتْ في
بستانِهِ الخاصِّ. علَّمها فنونَ الحكمةِ، وأسبغَ عليها من بحرِ علمِهِ ما يجعلُها
مرآةً لذكائِهِ. شبَّتِ الفتاةُ، وازدادَ حُسنُها إلى حدٍّ يبهجُ النفسَ ويأسرُ
القلبَ، حتى إذا اشتدَّ عودُها وصارتْ كالغصنِ الرطبِ في البهاءِ، قررَ الشيخُ
الحكيمُ أن يهبَها حياةً جديدةً ويبحثَ لها عن زوجٍ يليقُ بجمالِها وحسنِ صفاتِها.
قال
لها يومًا وقد بدا عليه عزمُ الراعي الحريصِ: "يا ابنتي، قد حانَ وقتُكِ
للزواجِ، ولقد رأيتُ في الشمسِ خيرًا لكِ ورفعةً. أليستْ هي من تُضيءُ الدنيا
وتَنشُرُ الدفءَ والأملَ في كلِّ موضعٍ؟"
تأملتِ
الفتاةُ قليلًا، ثم قالتْ بلطفٍ وحياءٍ: "أبتاه، إن الشمسَ وإن كانتْ منيرةً
لكنها حارقةٌ، فهي تحرِقُ وتُلهبُ. إنني لا أرغبُ بالاقترانِ بمن قد يُلهبني بقوةٍ
لا تُطاقُ."
تدبَّرَ
الشيخُ، ثم قال: "إن كنتِ ترفضينَ الشمسَ، فما رأيكِ في السحابةِ؟ إنها
تُظلِلُ الشمسَ وتسكبُ من أعالي السماءِ ماءً يُحيي الأرضَ ويبعثُ فيها الحياةَ."
أطرقتِ
الفتاةُ برهةً، ثم أجابتْ بتأنٍّ: "يا أبتِ، السحابةُ طيبةٌ، لكنها متقلبةٌ،
تحملُها الرياحُ من مكانٍ إلى مكانٍ، وتفنى تحتَ لهيبِ الشمسِ. لا أريدُ زوجًا
ينقلبُ حالُه كما تتقلبُ السحابُ في السماءِ."
فكرَ
الرجلُ مليًّا، ثم قال لها: "ما رأيُكِ إذًا في الرياحِ؟ فهي قويةٌ، تجوبُ
الأرضَ بطولِها وعرضِها، وتستطيعُ أن تذهبَ إلى حيث تشاءُ."
هزَّتِ
الفتاةُ رأسَها قائلةً: "لكنَّ
الرياحَ، يا أبي، قويةٌ إلا أنها جامحةٌ، لا تأبهُ للرحمةِ، تهبُّ أحيانًا
فيلحقُها الدمارُ. إنني أبتغي أمانًا لا عصفًا، وسكينةً لا اضطرابًا."
تأمّلَ
الرجلُ وأخذَ يُفكرُ في من يصلحُ ليكونَ لها زوجًا، حتى استقرَّ فكرُه على الجبلِ،
وقال: "ما رأيُكِ في الجبلِ؟ فهو قويٌّ، شامخٌ لا تهزُّهُ ريحٌ، ولا تغلبُهُ
شمسٌ، ولا يغشاهُ سحابٌ."
ابتسمتِ
الفتاةُ، وقد لاحَ طيفُ القبولِ في عينيها، لكنها قالتْ: "أبتاه، الجبلُ
متينٌ وثابتٌ، لكن حتى الجبلَ يُثقَبُ ويَهتزُّ، ويقوى عليه من هو أضعفُ من الريحِ
والشمسِ والسحابِ. فأنا أريدُ من يُشبهني في طبيعتِي، يُشاركني أصلي، ويكونُ
قريبًا من ذاتي. أريدُ فأرًا يُشاركني حُبَّه للحياةِ والسكينةِ."
دُهشَ الرجلُ الحكيمُ من جوابِها، لكنه سرعانَ ما أدركَ عُمقَ قولِها وحكمةَ اختيارِها. رفعَ عصاهُ مرةً أخرى، وأعادها إلى شكلِها الأولِ، فأرةً صغيرةً كما كانتْ، فعاشتْ سعيدةً مع رفيقِها، وتذكرَ الناسُ أن السعادةَ ليستْ في العظمةِ والقوةِ، بل في أن نجدَ من يُناسبُ قلوبَنا ويرتاحُ إليه كيانُنا، وأن الجذورَ قد تكونُ أكثرَ دلالةً من السطوحِ.
قصة وحكمة: الفئران التي أكلت الحديد
نوادر العرب: الحمّال الذي أصبح والياً
قصة أُسطورة: زيوس وهيرا: صراع الآلهة
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق