الكرمُ والنقاءُ يجلبان النِّعمَ والرِّفعَة
في قديمِ الزمانِ وسالفِ العصرِ والأوانِ، في مدينةٍ عريقةٍ تُدعى "مدينةُ الفيروزِ"، ازدانتْ سواحلُها بروعةِ البحرِ وانعكاسِ شمسِ النهارِ على أمواجِهَا المتراقِصةِ. كان المرفأُ كقلبٍ نابضٍ في المدينةِ، تعجُّ ساحاتُهُ بالحمالينَ والتجارِ وأصحابِ السفنِ، وكلٌّ ينادي ويُروِّجُ لبضاعتهِ أو يعرضُ خدماتِهِ بنبرةٍ لا تغيبُ عن الآذانِ.
وفي
زخمِ هذا السوقِ المتلاطِمِ، وقفَ شابٌّ نحيلُ الجسدِ يُدعى أمينَ، يُصارعُ صعوبةَ
الحياةِ ويمارسُ عملَهُ كحمالٍ بسيطٍ، يحملُ البضائعَ ويجوبُ بها الطُرُقاتِ على
ظهرِ بغلَتِهِ الهزيلةِ.
كان
أمينُ قد فَقَدَ كلَّ ما يملكُ في حريقٍ شبَّ في منزلِ عائلتِهِ، وتُوفِّيَ والدهُ
وهو يُحاولُ إنقاذَ ما يمكنُ إنقاذُهُ. وجدَ نفسَهُ في عُزلةٍ ووحدةٍ، يفتقرُ إلى
المالِ ويعتمدُ على هذه البغلةِ الضعيفةِ ليكسبَ بها قوتَ يومِهِ. ورغم ضنكِ
عيشِهِ، عُرِفَ بينَ الناسِ بطهرِ قلبِهِ وصدقِ عملِهِ، إلّا أنَّهُ ظلَّ مُهملاً
لا يعبأُ بهِ أحدٌ، وكان التجارُ يتهكّمون عليهِ لضعفِ قوتِهِ وتواضعِ مظهرِهِ.
وذاتَ
يومٍ، وبينما كان أمينٌ في المرفأِ يبحثُ عن عملٍ، لمحَ عجوزًا غريبًا في هيئتِهِ،
يبدو على ملامحِهِ البؤسُ والإرهاقُ، يتكئُ على عصاهُ ويرمقُ المرفأَ بنظرةٍ
حزينةٍ. ما إنْ رآهُ أمينٌ، حتى أشارَ إليهِ بصوتٍ واهنٍ قائلاً: "يا
بُنَيَّ، أترغبُ في مساعدةِ رجلٍ عجوزٍ شقِيَّ بهِ الدهرُ؟" اقتربَ أمينٌ
منهُ وأجابَ بتواضعٍ: "على الرحبِ والسعةِ يا عمي، فأنا لا أملكُ سوى بغلةٍ
هزيلةٍ وخدمةِ فقيرٍ إلى اللهِ."
عندها
حكَى لهُ العجوزُ حكايتَهُ المؤلمةَ؛ إذْ كان غريبًا ضاعتْ أموالُهُ وغرقتْ
سفينتُهُ، ولا معينَ لهُ في هذهِ المدينةِ سوى لطفِ الناسِ. سمعَ أمينٌ قصتَهُ،
وتأثرَ بحالِهِ، فقالَ: "لا بأسَ، سآخذُك إلى قصرِ الوالي، لعلَّهُ يستجيبُ
لطلبِكَ ويمنحُكَ شيئًا يُعينُكَ." حملَهُ على ظهرِ بغلَتِهِ، واتجهَ بهِ إلى
القصرِ. ولمّا وصلا، طرقَ أمينٌ البابَ، وأبلغَ الحارسَ بحالِ الرجلِ. إلّا أنَّ
الحارسَ ردَّ عليهِ بغلظةٍ وسخريةٍ قائلاً: "ما شأنُ الوالي بالأشقياءِ
أمثالِكما؟ ارحلْ وإلّا أوجعتُكَ ضربًا!"
رجعَ
أمينٌ إلى الرجلِ بحزنٍ واعتذرَ لهُ، وأخبرَهُ بما حدثَ، فأجابَهُ العجوزُ قائلاً:
"جزاكَ اللهُ خيرًا، يا بُنَيَّ، فلعلِّي أرتاحُ على هذهِ العتبةِ."
إلّا أنَّ أمينًا، المملوءَ طيبةً، أصرَّ على مساعدتِهِ، وأخذَ يبحثُ لهُ عن
ملجأٍ، فحاولَ إدخالهُ إلى الخانِ، ثمَّ المسجدِ، ولكن لم يجدْ من يُعينُهُ. حتى
إذا نفدتْ حيلتُهُ قالَ لهُ: "تعالَ معي إلى بيتي المتواضعِ، فليس لي إلّا
كوخٌ بسيطٌ على أطرافِ المدينةِ، ولكنَّهُ مأوًى كريمٌ."
حين
أوصلَهُ إلى كوخِهِ البسيطِ، جلسَ العجوزُ مغمورًا بالشكرِ، وأخذَ يتأملُ هذا
الشابَّ الطيبَ الذي لم يألُ جهدًا في مساعدتِهِ. ثمَّ قالَ لهُ: "أخبرني
عنكَ يا بُنَيَّ، فما أراكَ إلّا صاحبَ سريرةٍ نقيةٍ، نادرةٍ بينَ الناسِ."
قصَّ أمينٌ عليهِ حكايةَ بؤسِهِ، وفقدانِهِ لأبيهِ وأملاكِهِ، وصراعَهُ مع الحياةِ
بعدَ أن أدارَ الأقاربُ ظهورَهم لهُ، فلم يبقَ لهُ سوى هذهِ البغلةِ الضعيفةِ.
وفي
لحظةٍ مباغتةٍ، تغيَّرتْ هيئةُ العجوزِ، وأخذَ جسدُهُ يكتسي بملابسَ فاخرةٍ،
وظهرتْ عليهِ علاماتُ الملكيةِ والمهابةِ. فزعَ أمينٌ ممّا رأى، وقالَ: "من
أنتَ؟!" ابتسمَ العجوزُ، وقد صارَ أميرًا في الحُلَّةِ والهيبةِ، وقالَ:
"أنا الأميرُ سندٌ، ابنُ ملكِ الجانِّ، وقد جئتُ إلى عالمِ البشرِ باحثًا
عمّن يمتلكُ النقاءَ والكرمَ. أيقنتُ الآنَ أنَّكَ أنتَ ما كنتُ أبحثُ عنهُ، وها
أنا أمنحُكَ مكافأةً عظيمةً."
وبكلماتٍ
ساحرةٍ، وهبَ الأميرُ أمينًا قوةً خارقةً، وجعلَ لهُ منزلًا كبيرًا بدلًا من
كوخِهِ، كما حوَّلَ بغلَتَهُ إلى بهيمةٍ قويةٍ كأنّها مخلوقٌ من أساطيرِ الزمانِ.
لكنَّهُ أردفَ قائلاً: "احذرْ يا أمينُ، فإنَّ هذهِ النعمةَ ستظلُّ لكَ ما دمتَ
صافيَ القلبِ نقيَّ النيةِ، فإنْ أصابَ قلبَكَ طمعٌ أو حقدٌ، زالَ عنكَ هذا
النعيمُ." ثم تلاشى الأميرُ سندٌ تاركًا أمينًا في حالةٍ من الذهولِ.
استفاقَ
أمينٌ من دهشتِهِ، ونظرَ حولهُ، فإذا بمنزلِهِ قد تحوّلَ إلى قصرٍ بديعٍ، وغرفُهُ
مليئةٌ بكلِّ ما لذَّ وطابَ من الأطعمةِ والأثاثِ الفاخرِ. أحسَّ أنَّ جسدَهُ قد
باتَ أشدَّ قوةً من ذي قبلِ، فانطلقَ إلى السوقِ ليعرضَ خدماتِهِ بثقةٍ. وسرعانَ
ما ذاعَ صيتُهُ بينَ التجارِ والحمالينَ، إذْ باتَ قادرًا على حملِ أثقالٍ لم يكنْ
يحلمُ برفعِها من قبلُ، بفضلِ قوَّتِهِ الهائلةِ التي اكتسبَها من الأميرِ سندٍ.
عندها
تجمَّعَ التجارُ حولهُ يطلبونَ خدماتِهِ، حتى باتَ أمينٌ شخصيةً بارزةً في السوقِ،
وأقبلَ عليهِ العمالُ الفقراءُ طمعًا في كرمِ معاملتِهِ. كوّنَ فريقًا من
الحمالينَ ووزَّعَ بينهمُ العملَ بعدلٍ وإنصافٍ، وأسسَ نظامًا يُساعدُ كلَّ
محتاجٍ، بل جعلَ من نفسهِ رئيسًا للحمالينَ، يُقسّمُ عليهمُ الأعمالَ والأجورَ.
ورغمَ
هذهِ النِّعمِ التي أغدقَها عليهِ القدرُ، لم ينسَ أمينٌ نصيحةَ الأميرِ. استمرَّ
في توزيعِ جزءٍ من أجرهِ على الفقراءِ، وتفانى في مساعدةِ من يحتاجُ، حتى ذاعَ
صيتُهُ بينَ الناسِ بالعدلِ والرحمةِ، ووصلَ خبرُهُ إلى الوالي الذي باتَ ينظرُ
إليهِ بإعجابٍ وحذرٍ، إذْ أصبحَ أمينٌ رمزًا للنجاحِ، محببًا إلى قلوبِ أهلِ
المدينةِ.
وذاتَ
يومٍ، تناهى إلى أسماعِ أهلِ المدينةِ نبأٌ عجيبٌ: السلطانُ نفسهُ سيزورُ مدينةَ
الفيروزِ بعدَ سماعِهِ بأخبارِها وشهرتِها، وسينظرُ في حالِ شعبِها ورعيتهِ. في
اليومِ المنتظرِ، حضرَ السلطانُ خلسةً إلى السوقِ، متنكّرًا في زيِّ تاجرٍ،
واختلطَ بالناسِ، وراحَ يُراقبُ تصرفاتِهم. وإذ سمعَ بحسنِ سيرةِ أمينٍ، طلبَ أن
يُقابلهُ ويَتحدثَ إليهِ.
وقفَ
السلطانُ أمامَ أمينٍ وقالَ لهُ: "حدِّثني عن حالِكَ يا أمينُ." فقصَّ
أمينٌ قصتَهُ بتواضعٍ، دونَ أن يذكرَ شيئًا عن الأميرِ سندٍ أو ما مرَّ بهِ من
كراماتٍ. وحينها أُعجبَ السلطانُ بصدقِهِ وتواضعِهِ، وأدركَ أنَّ أمينًا هو الرجلُ
المناسبُ لتولِّي الأمورِ في هذهِ المدينةِ. فأعلنَ في السوقِ أنَّهُ سيُولِّي
أمينًا شؤونَ المدينةِ ليصبحَ واليًا عليها، ووعدهُ بأن يكرمَهُ ويعطيَهُ الثقةَ
الكاملةَ.
عاشَ
أمينٌ بقيةَ عمرِهِ في عدلٍ وإحسانٍ، واضعًا في قلبِهِ أنَّ الأمانةَ والبذلَ في
الخيرِ هما كنزُهُ الثمينُ، وأنَّ الطمعَ لا يأتي إلّا بالهلاكِ. وبقيَ الناسُ
يذكرونَهُ جيلًا بعدَ جيلٍ، كوالٍ عادلٍ كريمٍ، خلدّتْهُ مدينةُ الفيروزِ نموذجًا
للحكمةِ والشجاعةِ ونقاءِ النفسِ.
قصة وحكمة: الراعي والماعز البري
قصة وحكمة: الدبابير والحجل والمزارع
قصة وحكمة: صيّاد الطيور وصيّاد السَّمك
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق