احلمْ، لكنْ بواقعية
كانَ يا ما كانَ، في سالفِ الأزمانِ، رَجُلٌ فَقيرُ الحالِ، قانعٌ بما قُسِمَ لهُ من الدُّنيا، وحيدٌ لا خليلَ لهُ ولا أهل يأنَسُ بِهِم. كانَ هذا الرَّجُلُ يعيشُ في كُوخٍ ضَئيلٍ، لا يملِكُ فيهِ سوى قِدرٍ من طينٍ، يَضعُ فيهِ من الأرزِّ كلَّ يومٍ ما يُقيمُ أَوَدَهُ، ويَعقِدُ الأملَ على أنْ يَبيعَ ما يجمعُهُ فيهِ من فُتاتِ الزرعِ يوماً، فيملأُ جُعبَتَهُ بمالٍ يَسيرٍ يَسُدُّ بهِ رَمَقَه.
كانَ
القِدرُ يَتَدَلَّى على حَبْلٍ مُهترئٍ بجانِبِ سريرِهِ، يُراقبُهُ الرَّجُلُ
بعَيْنٍ شديدةِ الحَذَرِ، كأنَّهُ حِرزُ كَنْزِهِ الثَّمينِ، يُحدِّقُ فيهِ قَبْلَ
نومِهِ كأنما يَغْزِلُ لهُ الآمالَ بحَريرِ الخَيالِ. وذاتَ مَساءٍ، لَمّا امتدَّ
الليلُ وهدَأَ السُّكونُ، رَأى الرَّجُلُ أنَّ القِدرَ قد امتلأَ عن آخرِهِ
بالأرزِّ، فاستبشَرَ فرِحاً، وقالَ في نَفسِهِ: "قد حانَ أوانُ الحَصادِ،
وبُزوغُ فَجرِ الأملِ الذي طالَ انتِظارُه، فغداً أبيعُ هذا الأرزَ وأحصدُ ما
طَمَحتْ إليهِ نَفسي."
في
تلكَ اللَّيلةِ، استلقى الرَّجُلُ مُتملمِلاً في فِراشِهِ، مِلءُ روحِهِ
الحَماسَةُ، وأخَذَت عَيناهُ تَزوَغانِ نحوَ القِدرِ المُتدلِّي قُربَهُ، ثمَّ
أسلمَ نَفسَهُ لِسُلطانِ النَّومِ وراحَ يَحلُمُ، فإذا بهِ في خِضَمِّ حُلمٍ
واسِعِ الأطرافِ، يَرى القِدرَ يَفيضُ بالأرزِّ وكأنَّهُ نَبْعٌ لا يَنْضَبُ.
استرسلَ
الرَّجُلُ في أحلامِهِ، وقد خُيِّلَ لهُ أنَّه باعَ الأرزَ بِرِبحٍ وفيرٍ، فابتَهَجَتْ
نَفْسُه، وجَعَلَ يُخطِّطُ ويُقَدِّرُ: "بمالِ الأرزِّ أشتري بَيْضَ
الدَّجاجِ، فيَفْقِسُ ويَخرجُ منهُ صغارُ الدَّجاجِ، فأَرْعاهم حتَّى يَكبروا،
وأبيعُ منهم وأشتري بثَمَنِهم قَطيعاً من الماعِزِ. ستَلِدُ لي الماعِزُ صِغاراً،
وما هي إلَّا أيَّامٌ حتَّى يكونَ لي قَطيعٌ عظيمٌ!"
ثمَّ
تخيَّلَ نفسَهُ يُربِّي الماعِزَ حتَّى يُصبحَ قَطيعاً، فيُبادِلُها بأبقارٍ
وجواميسَ، فتَدرُّ عليهِ تلكَ الأبقارُ لَبناً غزيراً، يَصنعُ منهُ الزُّبدةَ،
ويَبيعُ اللَّبنَ الرَّائِبَ، ويَجني الأَرباحَ فيَملأُ أكفَّهُ بما يَكفيهِ
لِبِناءِ بَيتٍ عظيمٍ. وهُنا، خالَ أنَّ الأعيانَ ورِجالَ البَلدَةِ سيَتهافَتونَ
إليهِ، يطلُبونَ وُدَّهُ ويَعرِضونَ عليهِ مُصاهَرَةَ بناتِهِم، فيُوافِقُ، وتَغدو
لهُ زَوجةٌ، يَنجبُ منها طِفلاً، كأنَّهُ البَدرُ في تَمامِهِ.
رأى
طِفلهُ يَعبَثُ ويَصرخُ فَرَحاً، فأخَذَت نفسَهُ الغَيرةُ وكأنَّه أبٌ مُشفقٌ،
فمَدَّ يَدَهُ للعَصا بجانِبِ سريرِهِ لِيَنْهَى طِفلهُ عن إزعاجِهِ، وأخَذَ
يَهوِي بالعَصا كما لو كانَ أمامَهُ وَلَدُهُ فِعلاً، وما شَعَرَ إلَّا والعَصا
تَتَهَشَّمُ، ثمَّ سَقَطَتْ بِضَربةٍ قويَّةٍ على القِدرِ.
تَحَطَّمَ
القِدرُ، وتَناثَرَ الأرزُّ في فَوضى بائسةٍ على الأرضِ المُوحِلَةِ، فتَبَدَّدَتْ
أحلامُه كما يَتبدَّدُ السَّرابُ عندَ مُطْلَعِ الشَّمسِ. نَهَضَ من نَومِهِ
مَروُعاً، يَرَى الخَسارَةَ تَسري كالنَّارِ في هَشيمِ آمالِهِ، وقد أدرَكَ حينَها
أنَّ ما أضاعَهُ في لَحظَةٍ من خَيالاتِ السَّرابِ كانَ أَثْمَنَ ممَّا ظَنَّ،
وأنَّ الحُلمَ حينَ يَطغى على الوعيِ يُمسي كَالوَهمِ، يَجرفُ صاحِبَهُ بعيداً عن
حاضِرٍ يَملِكُ بَذرَةَ نَجاحِهِ الحَقيقيَّةِ.
فجَلسَ
الرَّجُلُ على أَطلالِ قِدرِهِ المُهشَّمِ، وقد نَطَقَ في سِرِّهِ حِكْمَةً
تَشُعُّ بالأسى: "ما أضعتُهُ كانَ في يَدي، وما طَمَحتُ إليهِ كانَ في
خَيالي، فانْتَهَى ما لي إلى فَراغٍ."
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق