وَهْمُ الثراء وثَمنُ النَّدم
في قريةٍ صغيرةٍ، تُعْرَفُ بطيبةِ أهلِها وأصالةِ قلوبِهم، عاشَ رجلٌ يُدعى كريم. كانَ رجلًا بسيطًا في مظهرِه، عميقًا في طيبتهِ، وكأنَّ قلبَه خُبْزٌ أُعِدَّ ليُطْعِمَ كلَّ جائعٍ ويُشْبِعَ كلَّ عابرِ سبيلٍ. اختارَ كريمٌ أنْ يكونَ خَبَّازًا، يَصْنعُ بيديهِ الخبزَ الطازَجَ لأهلِ قريتِه، مُعْتَبِرًا أنَّ هذهِ الحِرْفَةَ رسالةٌ، وأنَّ في طراوَةِ الخبزِ الذي يُعِدُّهُ للناسِ دلالاتٍ لا يُدْرِكُها إلا مَن باعَ دنياهُ بثمنٍ زهيدٍ.
يبدأُ
كريم يومَهُ قبلَ بزوغِ الفجرِ، يعجنُ الطحينَ بيدينِ قويّتينِ وقلبٍ مَلِيءٍ
بالإخلاصِ، يُعِدُّ الأرغِفَةَ الطازَجَةَ ويستقبلُ زبائِنَهُ بابتسامةٍ تُشْعِرُهم
بأنَّهُم أمامَ رجلٍ عظيمٍ، لا يعرفُ سوى الجودِ والبذلِ، حتى وإنْ كانَ في أبسطِ
صورِهِما.
أمّا
سعاد، زوجتُهُ، فقد كانتْ امرأةً تملؤها طموحاتُ الدنيا وتَسْرَحُ أحلامُها في
أروِقَةِ القصورِ الفارِهةِ؛ فهيَ تَشْتَهي بريقَ المالِ وتَشْتَهي معهُ المكانةَ
الرفيعةَ في المجتمعِ. كانتْ في البدايةِ تُؤمِنُ أنَّ كريمًا سيُغَيِّرُ
حياتَهما، وأنَّهُ سيقودُها نحوَ حياةٍ منَ الرخاءِ والثَّراءِ، ولكنَّ السنينَ
مرَّتْ، وكريم لم يَحِدْ عن خطى البَساطَةِ. لم تَعُدْ سعاد قادِرَةً على فَهْمِ
سعادتِهِ بالحياةِ المتواضِعَةِ؛ أصبحتْ تُقارِنُ نفسَها بنساءِ القريةِ
المتباهيَاتِ بالثراءِ، اللواتي يَجِدْنَ من يَشْتَرِي لَهُنَّ أفخرَ الملابسِ
والمجوهراتِ، فتساءلتْ: كيفَ لهذا الرَّجُلِ أن يكونَ سعيدًا في حياةٍ هادِئَةٍ
خاليةٍ من تَرَفِ الدنيا؟
وذاتَ
يومٍ، سافرتْ سعاد إلى المدينةِ المجاورةِ لحضورِ زفافِ أحدِ أقاربِها، وهناكَ
التقتْ رجلًا يُدعى فريد، رجلًا ثريًّا مُحاطًا بهالةٍ منَ النُّفوذِ والكاريزما،
يظهرُ في أفخرِ الثيابِ ويتحلّقُ حولَهُ الأصدقاءُ والمُحبّونَ، فتسلَّلَ إلى
قلبِها إعجابٌ عجيبٌ. أخذتْ تُفَكِّرُ فيما لو كانتْ تَحْيا حياةً مُكَلَّلَةً
بالبَذَخِ لو كانَ بجانبِها رجلٌ مثلُهُ. لاحظَ فريدٌ اهتمامَها، فبدأَ بمغازلتِها
بلُطْفٍ، وأخذَ يُظهرُ لها من سحرِه ومالِهِ حتى تملَّكَتْها الأحلامُ بوَهْمٍ
جميلٍ، يُوهمُها بأنَّهُ قادرٌ على منحِها حياةً ملؤها الترفُ والرغدُ.
تسلَّلَتْ
بُذُورُ الشكِّ إلى قلبِ سعاد، وبدأتْ تَرَى كريمًا في عينِها على نحوٍ لم
تَعْهَدْهُ من قبلُ، فأخذتْ تُقَلِّلُ من شأنِه وتنالُ من همَّتِه، حتى انفجرَ ذلك
اليومُ الذي أظهرتْ فيهِ وجهَها الحقيقيَّ، وقالتْ لكريم بكلِّ برودٍ إنَّها
تُرِيدُ الطلاقَ. بُهِتَ كريمٌ، حاولَ أنْ يَسْألَها عمَّا حَلَّ بها، لكنَّها لم
تُعِرْهُ اهتمامًا؛ فقد كانَ قرارُها صارمًا، "أريدُ حياةً لا تُقَيِّدُني في
أَسْرِ البَساطَةِ والفقرِ." آلمَ هذا الكلامُ كريمًا، ولكنَّهُ وافقَ على
الطلاقِ، وانفطرَ قلبُه وهو يُوَدِّعُها، مُحاولًا أنْ يَمْسَحَ دُمُوعَهُ أمامَها
وهو يُرَدِّدُ لنفسِهِ أنَّ الحبَّ لا يُلْزِمُ أحدًا.
لم
يَمْضِ وقتٌ طويلٌ حتى تزوَّجَتْ سعاد من فريد وانتقلتْ إلى قصرِهِ الفاخرِ، حيثُ
الجُدرانُ المُذَهَّبَةُ والمفروشاتُ الفاخِرَةُ، فَبُهِرَتْ في بادِئِ الأمرِ بما
رأتْ، وسعِدَتْ بمظاهرِ الثراءِ من حولِها، ظنًّا منها أنَّها وجدتْ أخيرًا الجنةَ
التي كانتْ تَحْلُمُ بها. لكنْ سرعانَ ما انقلبَتْ عليها هذهِ الجنةُ، ففريد لم
يكنِ الرجلَ المُحِبَّ الذي تَوَهَّمَتْهُ، بل كانَ جافًّا، أنانيًّا، لا يَرَى
فيها سوى قطعةِ أثاثٍ أخرى في منزلِهِ الكبيرِ. معَ مرورِ الأيَّامِ، اكتشفتْ سعاد
أنَّ فريدًا ليس وَفِيًّا، بل يتنقَّلُ بين النساءِ، فتبدَّدَتْ كلُّ أوهامِها،
وبدأَتْ تشعرُ بالعُزْلَةِ والوَحْدَةِ في ذلكَ القصرِ الذي لا حياةَ فيهِ ولا
دفءَ.
وفي
خَلَوَاتِها بدأَتْ ذكرياتُ كريم تَطْفُو على سطحِ ذاكرتِها، تذكَّرَتْ أيَّامَها
معه، يومَ كانَ بسيطًا لكنَّهُ مُحِبٌّ، قليلَ المالِ لكنَّهُ كبيرُ النفسِ،
يُشَارِكُها ضَحَكَاتِهِ ويَمْلَؤُها بالأمانِ. شَعَرَتْ بفَراغٍ كبيرٍ يَمْلَأُ
صدرَها، وبدأَتْ تُدْرِكُ أنَّها قدِ استبدَلَتْ حياةً مليئةً بالحبِّ بأوهامٍ
خدَعَتْها ببريقٍ زائفٍ.
وذاتَ
يومٍ، لم تَقْدِرْ على صَدِّ مشاعرِها أكثر، فعادَتْ سرًّا إلى القريةِ،
وتَسَلَّلَتْ في أَزِقَّتِها القديمةِ حتى وصلَتْ إلى المخبزِ الذي كانَ يُدِيرُهُ
كريم. رأتْ كريمًا من بعيدٍ وهو يُعِدُّ الأرغِفَةَ، يَعْمَلُ بيدينِ ثابتتَيْنِ
ونَفْسٍ مُطْمَئِنَّةٍ، يضحكُ ويُبادِلُ أهلَ القريةِ التَّحِيَّةَ، ويبدو أكثرَ
سعادةً ورضا مِمَّا رأتْهُ عليهِ يومًا. أدركَتْ سعاد حينها خطأَها،
وتَمَلَّكَتْها رغبةٌ في العودةِ إليهِ، فجمعَتْ شجاعتَها واقتربَتْ من كريمٍ.
استقبلَها
كريمٌ بابتسامةٍ صافيةٍ كعادَتِهِ، ولم يَظْهَرْ عليهِ أَثَرٌ من كُرْهٍ أو غضبٍ.
بدأَتْ تَبْكِي وتَعْتَذِرُ له عمَّا اقترفتْهُ بحقِّه، وتَعْتَرِفُ بخَطَئِها،
تُخْبِرُه أنَّ الحياةَ التي ظَنَّتْها حياةَ السعادةِ لم تمنحْها سوى الألمِ
والخَيْبَةِ، لكنَّ كريمًا نظرَ إليها بعينينِ تَمْلَؤُهُما الشَّفَقَةُ وقالَ:
"يا سعادُ، لقد اخترتِ طريقَكِ، وأنا تجاوزْتُ الألمَ الذي سَبَّبَهُ
فراقُكِ. السعادةُ ليستْ في المالِ، بل في قلبٍ راضٍ مُحِبٍّ." حاولَتْ سعاد
أنْ تَسْتَعْطِفَهُ ليمنحَها فُرْصَةً أخرى، لكنَّهُ اعْتَذَرَ بلُطْفٍ، وقالَ لها
إنَّهُ قد وجدَ سعادتَهُ مع نفسِهِ ومعَ عملِهِ، ولا يَبْحَثُ عن شيءٍ آخرَ.
عادَتْ
سعادُ إلى المدينةِ، تَعِيشُ حياتَها معَ فريدٍ الذي كانَ سببًا في خَيْبَتِها،
تَحْيا بلا طَعْمٍ ولا سعادةٍ، مُحَمَّلَةً بالنَّدَمِ، تَذْكُرُ كلَّ لحظةٍ
جميلةٍ عاشَتْها معَ كريم وتُدْرِكُ أنَّها فَرَّطَتْ في حبٍّ كانَ معها منذُ
البدايةِ، ولكنَّها لم تَعْرِفْ قيمتَهُ حتى ضاعَ. أمّا كريم، فقد واصَلَ حياتَهُ
كَخَبَّازٍ مَحْبُوبٍ، يُكْمِلُ أيَّامَهُ بينَ أَحْبابِهِ في القريةِ، يَعيشُ
حياةً مُتَواضِعَةً، لكنَّها حياةٌ مليئةٌ بالرضا والسلامِ.
قصة وحكمة: الإمبراطور جو شابين وضيفه دايناجون
قصة وحكمة: الصديق الوفي، حكاية الوفاء والعطاء
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق