اِنْحِيَاز
كانَ يا ما كانَ في قديمِ الزمانِ، راعٍ يحرثُ المروجَ ويجوبُ الفيافي، يرعى قطيعًا من الماعزِ المستأنَسةِ في مرعًى مُخضوضرٍ، وزَرْعٍ يانعٍ مورقٍ. كانَ في كلِّ صباحٍ يخرجُ معَ قطيعِهِ، يحرصُ عليهم حرصَ الأمِّ على ولدِها، ويتفقدُهم تفقدَ الغيثِ للمروجِ، لا يغمضُ له جفنٌ حتى يطمئنَّ أنَّ كلَّ ماعزٍ قد شبعَ واستراحَ، وأنَّ الشرَّ لن ينالَ منهم.
وذاتَ
يومٍ، إذ هو على سفحِ جبلٍ شامخٍ، ظهرَ له منَ الأفقِ قطيعٌ منَ الماعزِ البريةِ،
تسعى بخفةِ الريحِ وتخترقُ المدى بجموحِها. أبصرَها الراعي فانبهرتْ عيناهُ بجمالِ
هيئتِها وبأسِها الذي يفوقُ بأسَ قطيعِه. وعندها استولتْ على نفسِه رغبةٌ في
ضمِّها إلى قطيعِه، فسعى إليها متودِّدًا كمنْ يعرضُ الودادَ والودَّ، فقالَ لها:
"تعالَوا معي، أُوفِّرْ لكمُ الملاذَ الآمنَ والطعامَ الوافرَ، وسترونَ من
كرمي ما يغنيكم عن شظفِ العيشِ في البراري القاسيةِ".
وما
إن تناهَتْ كلماتُ الراعي إلى أسماعِها حتى انقادَتْ له، وقد أغراها وعدُهُ
بالراحةِ والرخاءِ، فتركتْ موطنَها بينَ الصخورِ والوديانِ، وانضمَّتْ إلى قطيعِهِ
المستأنَسِ. ومرَّتِ الأيامُ، ومالَ قلبُ الراعي للماعزِ البريةِ، يُعجَبُ
بنشاطِها ويهيمُ بجموحِها، حتى إنَّهُ آثرَها على ماعزِهِ الأولى، وأخذَ يخصُّها
بأطيبِ المراعي وأغنى الأعلافِ، ويوفِّرُ لها منَ العنايةِ ما لم يعهَدْه قطيعُه
من قبلُ.
أمَّا
الماعزُ المستأنَسةُ، فقد أدركَتْ أنَّ الراعيَ الذي كانَ يرعاها قد نسي عهدَ
العنايةِ بها، وباتتْ تُعاني من شظفِ العيشِ وضيقِ الرعايةِ، فذبلَتْ عيونُها
وشحبتْ أجسادُها، وأضحتْ تقفُ على حافَّةِ الضعفِ والهزالِ، وهي تراقبُ الراعيَ
بعينِ الحسرةِ واللوعةِ.
وذاتَ
مساءٍ، تجمَّعَتِ الغيومُ في السماءِ، وانقضَّتِ الرياحُ العاصفةُ تهزُّ الجبالَ
وتزلزلُ الوهادَ، فارتعدَتْ فرائصُ الماعزِ البريةِ، وعادَ إليها حنينُ الجبالِ
ورغبةُ العودةِ إلى مأواها الأصليِّ بينَ الصخرِ والظلِّ والوديانِ. فما إن
اشتدَّتِ العاصفةُ حتى غادَرَتْ على عجلٍ، عائدةً إلى مواطنِها القديمةِ، ولم
تلتفتْ إلى وعودِ الراعي ولا إلى كرمِهِ الزائفِ.
نظرَ
الراعي إلى قطيعِه فلم يجدْ سوى تلكَ الماعزِ التي كانَ قد أهملَها ونسي فضلَها
عليه. كانتْ ضعيفةً، هزيلةً، تكادُ لا تقوى على الوقوفِ، بعدما كانَ لها البأسُ
والشموخُ. عندئذٍ، أدركَ الراعي فداحةَ خطأهِ، وتجلَّتْ له عبرةُ الأيامِ، حينَ
فرَّطَ في مالِهِ وجعلَ منَ البريةِ سيِّدًا على المستأنَسِ. لكنَّ الأوانَ قد
فاتَ، ولم يبقَ له إلا الندمُ والحسرةُ.
فكانَ
بذلكَ درسًا لمنْ فضَّلَ غريبًا على أهلٍ، وخسرَ الوفاءَ طمعًا في ما لا يدومُ،
فعاشَ عاقبةَ سوءِ اختيارِهِ، وعلَّمتْهُ الأيامُ ما لم تعلِّمهُ السّنونُ.
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق