القوةُ في الروح لا في الجسد
كانَ يا ما كانَ في قَديمِ الزمانِ كَلبٌ عَتِيدٌ، عَرَكَتْهُ السِّنينُ، وصَقلَتْهُ التَّجارِبُ، حتّى صارَتْ حِكاياتُهُ حديثَ الألْسُنِ وسِفْرًا منَ البُطُولاتِ. كانَ هذا الكَلبُ، في رَيْعانِ شَبابِهِ، مَلِكًا على ساحَةِ القِتالِ، وأَسَدًا في مُلاحَقَةِ الفَرائِسِ، يُطَارِدُ الظِّباءَ كَرِيحٍ عاصِفَةٍ، ويَنْقَضُّ على الدِّبَبَةِ كَصاعِقَةٍ مُجَلْجِلَةٍ، فما عادَ مَرَّةً مِنْ مُطارَدَةٍ إلّا وأَتاهُ النَّصرُ مُسَوَّرًا بإِكْلِيلِ العِزِّ.
لكنَّ
الأيّامَ تَدُورُ، والزَّمانَ لا يُبقي شابًّا ولا يَنظُرُ لِعَزِيزٍ بِعينِ
الرَّحْمَةِ، فَتَقدَّمَت السُّنُونُ وتَغَيَّرَ الحَالُ. شَابَ فَرْوُهُ حتّى
غَدا كالصَّقِيعِ، وَذَبُلَتْ عَيْناهُ حتّى باتَتْ كالسَّرابِ، وتَراخَتْ
أنيابُهُ حتّى صارَتْ كَحَجَرٍ أملَسَ، يَكسُوهُ غُبارُ الزَّمانِ. إلّا أنَّ
قَلْبَهُ ظَلَّ يَتَوَهَّجُ بِروحِ المُحارِبِ، وكأنَّ شَجاعَتَهُ أَبَتْ أن
تَخْفُتَ مَهما أَثْقَلَتْهُ الأَزْمانُ.
وذاتَ
يومٍ، هَجَمَ خِنزِيرٌ بَرِّيٌّ على أَطْرافِ الحَقْلِ، فَانْطَلَقَت شَرارَةٌ مِن
عَيْنَي الكَلبِ العَجُوزِ؛ حَنينٌ لا يُقاوَمُ لِمَيْدانِ القِتالِ. قَفَزَ
بِكُلِّ ما تَبَقّى لهُ مِن عَزْمٍ وكِبْرِياءٍ، وَانْقَضَّ على الخِنزِيرِ
بِأَنْفاسٍ مُتَقَطِّعَةٍ، وعَضَّهُ في أُذُنِهِ كما كانَ يَفْعَلُ في أَيّامِ
قُوَّتِهِ. لكنَّ أنْيابَهُ التي كانَتْ يَوْمًا سُيُوفًا صارِمَةً لم تَعُدْ
تُقاوِمُ، فَتَراخَت قَبْضَتُهُ، ونَجا الخِنزِيرُ مِنهُ بِأُعْجُوبَةٍ.
حينَ
جاءَ صاحِبُهُ مُسْرِعًا ورأى الخِنزيرَ يَهْرُبُ، امْتَلأَ غَضَبًا وقالَ
لِلْكَلْبِ مُوَبِّخًا: "يا لَخيْبَتِكَ! كيفَ غَفَلْتَ عَنْ صَيْدِكَ
وسَمَحْتَ لِعَدُوِّكَ بِالفِرارِ؟" سَمِعَ الكَلْبُ العَجُوزُ كَلامَ
صاحِبِهِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ بِهُدُوءٍ، وفي عَيْنَيْهِ بَريقُ الماضِي الذي لا
يُمْحى، وقالَ: "يا سَيِّدي، لَقَدْ خَذَلَني الجَسَدُ الذي لا يَرْحَمُ،
لكِنَّ رُوحي ما زالَتْ كما عَهِدْتَها، رُوحي التي زَأَرَتْ في وَجْهِ
الدِّبَبَةِ والظِّباءِ. قاتَلْتُ اليَوْمَ كما كُنْتُ أُقاتِلُ أَيّامَ
الشَّبابِ، لكنَّ قُوَّةَ السِّنِينَ غَلَبَتْني وأَسْناني لَمْ تَعُدْ رِماحًا
تُمَزِّقُ العَدُوَّ. اذْكُرْني كما عَرَفْتَني فارِسًا لا يُهابُ، ولا تَذُمَّني
على ضَعْفٍ ما اخْتَرْتُهُ، فَلَسْتُ سِوى طَيْفٍ يَحِنُّ إلى مَجْدٍ كانَ."
حينَها،
أَدْرَكَ صاحِبُهُ أَنَّهُ أَمامَ روحٍ جَبّارَةٍ لا تَعْرِفُ الانهِزامَ، وأنَّ
العُمُرَ يَكْسو الجَسَدَ بِالضَّعْفِ، لكِنَّهُ لا يَسْتَطيعُ أَنْ يَمْحو
شَجاعَةَ النَّفْسِ وذِكْرى المَجْدِ.
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق