لكلِّ شيءٍ موضعُه
في قَرْيَةٍ سَكَنَتْ أَحْضَانَ الرِّيفِ، كَانَ هُنَاكَ رَجُلٌ بَسِيطُ الرُّوحِ عَمِيقُ التَّأَمُّلِ، يَتَجَوَّلُ في بَسَاتِينِ الطَّبِيعَةِ مُتَأَمِّلًا أَسْرَارَ الكَوْنِ وأَحَاجِيَّهِ.
وَذَاتَ
يَوْمٍ، بَيْنَمَا كَانَ يَسِيرُ عَلَى مَهْلٍ بَيْنَ الحُقُولِ، وَقَعَتْ
عَيْنَاهُ عَلَى يَقْطِينَةٍ ضَخْمَةٍ، مُسْتَدِيرَةٍ كَالْبَدْرِ، تَتَدَلَّى
عَلَى سَاقٍ وَاهِيَةٍ، نَحِيلَةٍ كَخَيْطٍ لَا يَقْوَى عَلَى حَمْلِهَا.
فَتَعَجَّبَ مِنْ هَذَا التَّنَاقُضِ، وَاسْتَفَزَّتْهُ غَرَابَةُ المَشْهَدِ.
رَفَعَ بَصَرَهُ قَلِيلًا، فَإِذَا بِشَجَرَةِ بَلُّوطٍ بَاسِقَةٍ شَاهِقَةٍ،
تَرْفَعُ أَغْصَانَهَا نَحْوَ السَّمَاءِ، تَحْمِلُ ثِمَارَ البَلُّوطِ
الصَّغِيرَةَ، كَالجَوَاهِرِ المُرَصَّعَةِ عَلَى تَاجٍ عَتِيقٍ.
فَكَّرَ
مَلِيًّا وَقَالَ في نَفْسِهِ، "كَيْفَ لِهَذَا الكَوْنِ العَجِيبِ أَنْ
يُرَتِّبَ الأُمُورَ عَلَى هَذَا النَّحْوِ؟ أَتَكُونُ تِلْكَ الشَّجَرَةُ
العَظِيمَةُ ذَاتُ الجِذْعِ القَوِيِّ حَامِلَةً لِتِلْكَ الثِّمَارِ
الصَّغِيرَةِ؟ وَتِلْكَ السَّاقُ الرَّفِيعَةُ قَدْ حُمِّلَتْ عَنَاءَ
اليَقْطِينَةِ الضَّخْمَةِ؟"
وَأَخَذَ
يَسْرَحُ في خَيَالَاتِهِ، قَائِلًا: "لَوْ كَانَ بِيَدِي تَدْبِيرُ
الأَمْرِ، لَجَعَلْتُ اليَقْطِينَاتِ تَزْهُو عَلَى أَشْجَارِ البَلُّوطِ
الشَّامِخَةِ، فَهِيَ أَحَقُّ بِحَمْلِهَا وَأَجْدَرُ بِصَوْنِهَا. أَمَّا ثِمَارُ
البَلُّوطِ الصَّغِيرَةُ، لَكَانَتْ مَكَانَهَا سَاقَ اليَقْطِينِ النَّحِيلِ،
تَنْبُتُ هُنَاكَ دُونَ أَنْ تَثْقُلَ أَوْ تُهَدِّدَ."
وَطَالَتْ
بِهِ خَوَاطِرُهُ، فَاسْتَلْقَى عَلَى الأَرْضِ تَحْتَ ظِلَالِ البَلُّوطِ،
تَارِكًا لِلْعَقْلِ هَدْأَةً وَلِلنَّفْسِ رَاحَةً. وَمَا هِيَ إِلَّا لَحَظَاتٌ
حَتَّى غَشِيَهُ النُّعَاسُ، وَأَطْبَقَتْ عَلَيْهِ أَحْلَامٌ لَطِيفَةٌ، حَتَّى
كَادَ يَنْفَصِلُ عَنْ عَالَمِهِ.
وَفَجْأَةً،
وَفي غَمْرَةِ سُبَاتِهِ، إِذْ بِبَلُّوطَةٍ صَغِيرَةٍ تَهْوِي مِنْ عَلْيَاءِ
الشَّجَرَةِ، فَتَسْقُطُ عَلَى أَنْفِهِ بِعَفَوِيَّةٍ، تُوقِظُهُ مِنْ غَفْوَتِهِ
المُفَاجِئَةِ. فَتَحَ عَيْنَيْهِ مُسْتَشْعِرًا شَيْئًا مِنَ الأَلَمِ اليَسِيرِ،
لَكِنَّهُ حَمَلَ في طَيَّاتِهِ عِبْرَةً بَلِيغَةً.
وَهُوَ
يَمْسَحُ أَنْفَهُ مُبْتَسِمًا، قَالَ مُتَأَمِّلًا: "يَا لَلْعَجَبِ! مَاذَا
لَوْ كَانَتْ يَقْطِينَةٌ ضَخْمَةٌ هِيَ الَّتِي سَقَطَتْ عَلَيَّ بَدَلًا مِنْ
هَذِهِ البَلُّوطَةِ الصَّغِيرَةِ؟ أَكَانَ لِيَبْقَى لِي مِنْ هَذَا الوَجْهِ
أَثَرٌ؟ لَقَدْ كُوِّنَتِ الأَشْيَاءُ في مَوَاضِعِهَا بِحِكْمَةٍ لَا تُدْرِكُهَا
عَيْنُ الإِنسَانِ، بَلْ يَدْرِكُهَا قَلْبُهُ حِينَ يَتَبَصَّرُ."
وَوَقَفَ
يُمْعِنُ النَّظَرَ إِلَى الشَّجَرَةِ واليَقْطِينَةِ، وَأَحَسَّ في صَدْرِهِ
بِإِجْلَالٍ لِتِلْكَ اليَدِ الخَفِيَّةِ الَّتِي وَضَعَتْ كُلَّ شَيْءٍ في
مَكَانِهِ، وَرَتَّبَتِ الكَوْنَ وَفْقَ مِيزَانٍ لَا يَخْتَلُّ.
قصة وعبرة: الرجل العجوز وحفيده
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق