لَيْسَ كُلُّ مَا يَلْمَعُ ذَهَبًا
في فَلَاةٍ مُترامِيَةِ الأطرافِ، وَسَطَ صَحَارِي شِبهِ الجَزِيرَةِ العَرَبِيَّةِ، كَانَ يَعيشُ تَاجِرٌ ذُو مَكْرٍ وفِطْنَةٍ، لا يُجارَى في حِيَلِهِ ولا يُضَاهَى في دَهَائِهِ. يُرافِقُهُ في مَغَامَرَاتِهِ قِرْدٌ مُدَرَّبٌ، أَضْفَى على مَكَائِدِهِ بُعْدًا جَدِيدًا، فَصَارَ هَذَا القِرْدُ رَفِيقَ الحِيلَةِ وشَرِيكَ الخَدِيعَةِ.
ولم يَكُنِ التَّاجِرُ كَغَيْرِهِ مِنَ التُّجَّارِ، لا
يَشْتَرِي البَضَائِعَ مِنَ السُّوقِ ولا يَتَعَامَلُ في السِّلَعِ كَمَا
يَفْعَلُونَ، وَرَغْمَ ذَلِكَ كَانَ يَمْلَأُ جُيُوبَهُ بِالذَّهَبِ، يَبِيعُ مَا
لا يُشْتَرَى، ويَجْنِي مَا لا يُزْرَعُ. فَكَيْفَ بَسَطَ الحِيلَةَ ونَشَرَ مَكْرَهُ؟
كَانَ الرَّجُلُ لِصًّا بَارِعًا، يُتْقِنُ سَرِقَةَ
البَضَائِعِ دُونَ أَنْ يَلْمَحَ أَثَرَهُ أَحَدٌ، يَمْضِي بَيْنَ النَّاسِ
كَنَسَمَةٍ لا تُرَى ولا تُسْمَعُ. وفي يَوْمٍ قَائِظٍ، حَيْثُ الشَّمْسُ تُلْقِي
بِلَهِيبِهَا على الرُّؤُوسِ، قَدِمَ إِلَى السُّوقِ تَاجِرٌ غَرِيبٌ، يَحْمِلُ
مَعَهُ حُزْمَةً مِنَ الثِّيَابِ القَدِيمَةِ، يَأْمُلُ في بَيْعِهَا بَيْنَ
المُتَسَوِّقِينَ. نَصَبَ كُشْكَهُ في زَاوِيَةِ السُّوقِ، وعَرَضَ بَضَاعَتَهُ
البَالِيَةَ، غَيْرَ أَنَّ المَارَّةَ مَرُّوا بِهَا دُونَ اكْتِرَاثٍ، فَلَمْ
تَجِدْ لَهَا طَالِبًا ولا مُشْتَرٍ.
حِينَئِذٍ، لَمَحَ التَّاجِرُ المَاكِرُ فُرْصَتَهُ
كَمَا يَرَى الصَّقْرُ فَرِيسَتَهُ، وابْتَسَمَ ابْتِسَامَةَ العَارِفِ بِخَفَايَا
الأُمُورِ. أَسَرَّ في نَفْسِهِ خُطَّةً مُحْكَمَةً، وأَلْبَسَ قِرْدَهُ مِعْطَفًا
زَاهِيَ الأَلْوَانِ، وأَطْلَقَهُ لِيَقْفِزَ ويَمْرَحَ أَمَامَ كُشْكِ التَّاجِرِ
الجَدِيدِ، مُحْدِثًا ضَجِيجًا جَذَبَ أَنْظَارَ الجَمِيعِ. انْشَغَلَ التَّاجِرُ
الغَرِيبُ بِحَرَكَاتِ القِرْدِ وابْتِسَامَاتِهِ الطَّرِيفَةِ، وفي غَمْرَةِ
انْشِغَالِهِ، تَسَلَّلَ اللِّصُّ بِخِفَّةٍ ورَشَاقَةٍ، كَأَنَّهُ طَيْفٌ في
الظَّلَامِ، وسَلَبَ حُزْمَةَ الثِّيَابِ القَدِيمَةِ دُونَ أَنْ يَشْعُرَ أَحَدٌ
بِهِ.
وفي الغَدِ، عَادَ اللِّصُّ إِلَى السُّوقِ وَقَدْ
غَيَّرَ ثَوْبَهُ وثَوْبَ بِضَاعَتِهِ، لَفَّ المَلَابِسَ المَسْرُوقَةَ في
أَوْرَاقٍ لَامِعَةٍ بَدِيعَةٍ، وأَقَامَ كُشْكَهُ في نَفْسِ المَكَانِ الَّذِي
سَرَقَ مِنْهُ، ونَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: "هَذِهِ الطُّرُودُ تَحْوِي
أَجْوَدَ الثِّيَابِ، لَكِنْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تَفْتَحُوا الطَّرْدَ إِلَّا في
بُيُوتِكُمْ! فَالسِّرُّ في الدَّاخِلِ، والخَيْرُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ
الغِلَافِ!" وتَدَفَّقَتِ النَّاسُ نَحْوَ كُشْكِهِ، يَنْجَذِبُونَ إِلَى
البَرِيقِ الظَّاهِرِ دُونَ أَنْ يَسْأَلُوا عَنِ المَضْمُونِ الخَفِيِّ.
وبَيْنَ المُشْتَرِينَ كَانَ هُنَاكَ رَجُلٌ قَدْ
تَفَجَّرَتْ فِيهِ الحَمَاسَةُ، إِذْ ظَنَّ أَنَّهُ وَجَدَ صَفْقَةَ العُمْرِ.
عَادَ إِلَى مَنْزِلِهِ، يَحْمِلُ الطَّرْدَ كَمَا يَحْمِلُ المُكْتَشِفُ كَنْزًا.
التَفَتَ إِلَى زَوْجَتِهِ قَائِلًا بِفَخْرٍ: "هَذِهِ الثِّيَابُ، يَا
عَزِيزَتِي، سَنُعِيدُ بَيْعَهَا في السُّوقِ بِأَضْعَافِ الثَّمَنِ، وسَنَجْنِي
مِنْهَا رِبْحًا وَفِيرًا!" لَكِنْ مَا إِنْ فُتِحَتِ الحُزْمَةُ حَتَّى
تَبَدَّدَ الأَمَلُ، وتَبَخَّرَتِ الأَحْلَامُ. فَقَدْ خَرَجَتْ مِنْهَا
الثِّيَابُ المُهْتَرِئَةُ، وظَهَرَ مَا خَفِي تَحْتَ الوَرَقِ اللَّامِعِ،
فَكَانَتْ خَيْبَتُهُمَا بِحَجْمِ طُمُوحِهِمَا.
أَطْرَقَتِ الزَّوْجَةُ بِرَأْسِهَا الحَكِيمِ وقَالَتْ:
"يَا رَجُلُ، العِبْرَةُ لَيْسَتْ في المَظْهَرِ البَرَّاقِ، بَلْ في
الجَوْهَرِ. وفي المَرَّةِ القَادِمَةِ، لِنَكْتَشِفْ مَا نَشْتَرِيهِ
بِأَنْفُسِنَا قَبْلَ أَنْ نَنْخَدِعَ بِالسَّطْحِ اللَّامِعِ، فَلَيْسَ كُلُّ مَا
يَلْمَعُ ذَهَبًا، ولا كُلُّ طَرْدٍ بَرَّاقٍ حَاوٍ لِلْخَيْرِ!"
قصة دينية: عبدالله بن المبارك في الحج
قصة للأطفال: مخبوزات بطعم الأحلام
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق