الحِكْمَةَ قد تَقْهَرُ الحِيلَةَ
في قديمِ الزمانِ، عَزَمَ مَلِكٌ جليلٌ على القيامِ بنُزهةٍ في غياهبِ الغاباتِ الوارِفَةِ المُحيطَةِ بِقَلعَتِهِ الشّامِخَةِ، حيثُ تُغَازِلُ أشِعّةُ الشّمسِ أشجارَها، وتَرْفُرفُ الطُّيورُ على أغصانِها. عادَ المَلِكُ بَعدها إلى قَصرِهِ، وقد أخذَهُ الحنينُ إلى دِفءِ العائِلَةِ، فدعاهم إلى الاستِحمامِ في البحيرةِ الهادِئَةِ المُجاوِرَةِ للحَديقَةِ المَلَكِيّةِ، حيثُ يَتَلاقى صفاءُ الماءِ مع خُضرةِ الرَّوابي.
كانَ
الفَرَحُ يعمُّ القلوبَ، وتَزدَانُ الوُجوهُ بِبَهْجَةِ اللِّقاءِ. وعلى ضِفافِ البحيرةِ،
وَضَعَتِ الملكَةُ وسَيداتُها حُلِيَّهُنَّ النَّفيسَةَ في عُهدَةِ الخَدَمِ، كي
لا يُعِيقَ بَريقُها مُتعةَ السِّباحةِ. كانتْ تلكَ الجَواهِرُ كدُرَرِ البَحرِ،
يَتَلَألَأُ بَريقُها في عُيونِ الناظِرينَ، ولكنْ بينهُنَّ، لاحَتْ سِلسِلَةُ
الملكَةِ اللّامِعَةِ كالشَّمسِ في وضَحِ النَّهارِ، تَحفَظُها بِعِنايةٍ بَينَ
يَدَيْها كأنَّها كَنزٌ لا يُقدَّرُ بثَمَنٍ. إلّا أنَّ أعيُنًا أُخرى كانتْ
تترقّبُ من بعيدٍ، حيثُ كانتْ هناكَ قِردَةٌ ذكيَّةٌ تَقْبَعُ على غُصنِ شَجَرَةٍ
سامِقَةٍ، تُراقِبُ كُلَّ ما يَجري بِحَذَرٍ بالغٍ وعُيونٍ يَملَؤها الطَّمَعُ.
راقَبَتِ
القِردَةُ ما جَرَى من تَسليمِ الجَواهِرِ إلى الخَدَمِ، وكانت تَتَمَنَّى في
سِرِّها أن يَغلِبَ النُّعاسُ إحدَى الحارِساتِ حتَّى تَنقَضَّ على غَنيمتِها دونَ
رَقِيبٍ. في بادئِ الأمرِ، كانتِ الخادِمَةُ يَقِظَةً، تَفتَرِشُ الرِّمالَ
وعَينَاها لا تُفارِقانِ الصُّندوقَ، ولكنْ ما إن أَقبَلَ الحَرُّ وثَقُلَ الهواءُ
حتَّى أخذَها النَّومُ، واستَسلمَتْ لِسُلطانِ النُّعاسِ.
عندَها،
لم تَدَعِ القِردَةُ الفُرصَةَ تَفوتُها، فَقَفَزَتْ بِمَهارَةِ الصَّيّادِ،
وانقَضَّتْ على الصُّندوقِ، تَفتحُهُ بِيَدَينِ مُرتَجِفَتَينِ، والتقطَتِ
السِّلسِلَةَ اللّامِعَةَ بَينَ مَخالِبِها. عادَتِ القِردَةُ إلى الشَّجَرَةِ،
تَتَأمَّلُ الجَواهِرَ تَحتَ ضوءِ الشَّمسِ، وكأنَّها تَحمِلُ القَمرَ بَينَ
يَدَيْها، ثُمَّ خَبَّأَتها في فَجوةٍ سِرِّيَّةٍ بعيدًا عن الأعيُنِ السّاهِرَةِ.
استَفاقَتِ
الخادِمَةُ على وَقعِ المُصيبةِ، فصاحَتْ بِأعلى صَوتِها: "لقدِ اختُرِقَتِ
الأمانةُ! سُرِقَتْ جَواهِرُ الملكَةِ!" فَتَدافَعَ الحُرّاسُ نحوَها كَسيلٍ
جارِفٍ، يُحاوِلُونَ فَهمَ ما حَدَثَ.
رَوَتِ
الخادِمَةُ حِكايتَها وعَينُها تَنْضَحُ بالنَّدَمِ: "كُنتُ أَحْرُسُ
الصُّندوقَ، لكنَّ حَرارَةَ النَّهارِ وثِقلَ الأَجفانِ غَلَباني. وعندما فَتَحتُ
عَينيّ، كانتِ الجَواهِرُ قد تَبَخَّرَتْ." فَنَقَلَ الحُرّاسُ ما جَرَى إلى
المَلِكِ، فأصْدَرَ أَمْرَهُ: "ابحَثُوا في كلِّ رُكنٍ، لا تَدَعُوا حَجَرًا
إلّا قَلَبتُموهُ، حتَّى يَقَعَ في أَيديكُمُ السّارِقُ الجَبانُ."
لكنَّ
البَحثَ طالَ، ولم يُعْثَرْ على أَثَرٍ لِلصٍّ، حتَّى بَدَا اليَأسُ يُخيِّمُ على
وُجُوهِ الحُرّاسِ. هُنا، تَفَتَّقَ ذِهنُ رَئيسِ الحَرَسِ بِفِكرَةٍ لم تَخطُرْ
على بالٍ، فاشتَرَى حِبالًا مِنَ الخَرَزِ الزُّجاجِيِّ المُتَلَأْلِئِ، وزَرَعَها
بَينَ الشُّجَيْراتِ ليلًا، كفَخٍّ مَنصُوبٍ بِدَهاءٍ.
وفي
فَجرِ اليومِ التالي، مَلَأَتِ الحَديقَةَ ثَرثَرَةُ القُرُودِ وهي تَلهُو
بالخَرَزِ اللّامِعِ، كُلُّ قِردَةٍ تُمِسِكُ بِخيطٍ يَلمَعُ كالنُّجومِ. إلّا
واحِدَةً، تِلكَ القِردَةُ التي خَبَّأتْ جَواهِرَ المَلِكَةِ، كانتْ تَجلِسُ
مُعتَزَّةً بِكَنْزِها، تُراقِبُ البَقِيَّةَ بِعَيْنٍ يَملَؤُها الغَيْرَةُ
والحَنَقُ.
ولمّا
رَأَتْ تِلكَ القُرُودَ الفَرِحَةَ بألعابِها، لم تَحْتَمِلِ الغَيْرَةَ في
قَلْبِها، فَقَرَّرَتْ أنْ تَتَفاخَرَ بما في حَوْزَتِها، فأخْرَجَتْ جَواهِرَ
المَلِكَةِ وارتَدَتْها قائلةً بِفَخْرٍ: "انْظُرُوا إلى جَواهِري
البَرّاقَةِ! إنَّها أَبْهى وأَجْمَلُ من خَرَزِكُمُ التَّافِه!" ولم تَدْرِ
أنَّها بذلكَ كَشَفَتْ نَفْسَها.
انقَضَّ عَلَيْها رَئيسُ الحَرَسِ من مَكْمَنِهِ، وأَمسَكَ بها بِقَبضَةٍ لا تَنْفَلِتُ، وعادَ بها إلى المَلِكِ وهو يَرْوِي خُطَّتَهُ التي أَوقَعَتْ بالقِردَةِ. فاستَقبَلَ المَلِكُ الجَواهِرَ وقدِ ارْتَسَمَتْ على شَفَتَيْهِ ابْتِسامَةُ الرِّضا، وقالَ للحَارِسِ مُمتَدِحًا: "لَقَدْ أَحْسَنْتَ أَيُّها الفَطِنُ البَصِيرُ، فَقَدْ بَيَّنْتَ أَنَّ الحِكْمَةَ قد تَقْهَرُ الحِيلَةَ، وأَنَّ أَبْسَطَ التَّدابِيرِ تُنْقِذُ من أَعْتَى المَواقِفِ."
قصة دينية: عبدالله بن المبارك في الحج
قصة للأطفال: مخبوزات بطعم الأحلام
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق