(لا
تحكم على المظهر)
هلّ
شهرُ رمضانَ وتزيّنتِ الشّوارعُ بالمصابيحِ الملوّنةِ المضيئةِ، وقامَ الأولادُ في
الشّارعِ بعملِ زيناتٍ من الورقِ المقوّى الملوّنِ، يصلُ بين النّوافذِ والشّرفاتِ
في خيطٍ مشدودٍ، الجميعُ تعاونَ لتزيينِ الشّارعِ كلّهِ، من أوّلهِ لآخرهِ سوى
بيتٍ واحدٍ لم يحاولْ أحدُنا الاقترابَ مِنه، كانَ لرجلٍ فظّ غليظِ القلبِ، يخافُه
الأطفالُ ويبتعدونَ عنه وكأنّهُ وحشٌ أسطوريٌّ..
يجلسُ
بشرفتِه وحيدًا يراقبُ حركةَ المارّة في انتظامٍ ولا يسمحُ لنا بلَعبِ كرةِ القدمِ
أمامَ بيتِهِ.
يصيحُ
في غضبٍ: إنكمْ تثيرونَ التّرابَ حولي وتحطّمونَ زجاجَ النّوافذِ، اغرُبوا عن
وَجهي.
العجيبُ
أنّ أهل الشّارعِ من الكبار كانوا يزورونَه باستمرارٍ كلَّ يومِ في رمضانَ،
وقُبيلَ ساعةِ الإفطارِ، يذهبُ أحدُهم بالأطباقِ السّاخنةِ الشّهيّةِ، يتوارى عن
الجميعِ، في السّرّ يقدّمُ له الطّعامَ والحلوى الطّريّةَ وبعضَ التّمرِ باللّبنِ
الباردِ.
لم
يحاول أحدُهم التّحدّثَ عمّا يفعله مع َهذا الرّجلِ غريبِ الأطوارِ الذي يُدعى "عمّ
صابر".
إلى
أن جاءَ أبي وقالَ: سأذهبُ في سفرٍ اليومَ، ويجبُ عليكَ أن تساعدَني في تقديمِ
طعامِ الإفطارِ إلى "عمّ صابرٍ".
جفلتُ
من أبي وشعرتُ بالخوفِ حينما تخيّلتُ نفسي واقفًا في حضرةِ ذلك الرّجلِ الذي لا
يحبُّ الأطفالَ، ورجوتُ أبي أنّ يعفيني من تلكَ المهمّةِ المستحيلةِ! لكنّ أبي
ربتَ على كتفي قائلاً: لا تتأخّر على "عمّ صابرٍ" بالفطورِ، رغمَ مرضِهِ
وشيخوختِه يصومُ رمضانَ كاملاً.
لا
تتأخّرْ عليه.
بالفعل
جهّزت أُمي الأطباقَ والأرغفةَ والحَلوى وطبقًا من التّمرِ اللّذيذِ، وقالتْ:
هيّا.. نفّذْ وصيّةَ أبيكَ. ولا تنسَ أن تغلق بابَ "عمّ صابرٍ" جيدًا.
ذهبتُ
إليه وبيدٍ مرتعشةٍ قدّمتُ له الطّعامَ، وجدتهُ يبتسمُ لي لأوّل مرّةٍ ويشيرُ لي
بالجلوسِ.
اعتذرتُ
لكنّه أصرَّ على بقائي معهُ، قائلاً: تكفيني بضعُ لقيماتٍ والباقي أوزّعهُ بنفسي
على ضيوفي الدّائمين.
قلتُ
في دهشةٍ: ضيوف؟!
قالَ
عمّ صابر: إنهمْ لا يتركونني إلا قليلاً، قِططي الرّائعة، تذهبُ للتريّض ثمّ
أجدُها حولي تنتظرُ نصيبَها من الطّعامِ.
ثمّ
استطردَ قائلاً: حاولتُ كثيرًا رفضَ هذا الطّعامِ.
لكنّ
أهلَ الشّارعِ يصرّونَ على إحضارهِ.
لم
تطاوعْني الكلماتُ وتلعثمتُ من شدّةِ خوفي وهو يقتربُ منِّي.
يبدو
بعكّازه مثل شبحٍ ضخمٍ له ثلاثةُ أرجلٍ..
شعرتُ
بدقّاتِ قلبي ووجدتني ألهثُ وأبتعدُ، لكنّه أمسكَ يديَّ وقال: هيّا.. تعالَ معي،
سأطلعكُ على شيء مهمٍ.
اعتذرتُ
وقلتُ: آسفٌ.. لن أستطيعَ البقاءَ أكثرَ مِن هذا، أمّي ستقلقُ عليَّ.
قالَ
في هدوءٍ: مادمتَ معي فلا تخشَ شيئًا.
وجدتني
أمامَ غرفةٍ كبيرةٍ ممتلئةٍ بالكتبِ والكرّاساتِ والأقلامِ والأوراقِ، وبعضِ
الكراسي مرصوصةٍ بإتقانٍ فوقَ بعضها.
قالَ
"عمّ صابر": تلكَ هي مكتبتي التي طالما نهل من معارفِها أهلُ الحيِّ.
كانوا
يسمونني المعلّم وكنتُ أستمتعُ بلقبي بينهم (عمّ صابر).
عشتُ
وحيدًا بينَ الكتبِ أعلِّمُ الآخرينَ وأنقلُ إليهم خبراتي، لا أبخلُ عليهم بشيءٍ
والآن بعدَ أن بلغتُ من الكبرِ عتيّا أوصيتُهم بتحويلِ بيتي إلى مكتبةٍ عامّةٍ
ومدرسةٍ لتعليمِ الأطفالِ.
لمّا
عدتُ إلى البيتِ حكيتُ لأمي ما حدث، فوجدتُها تخبرُني بحكايةِ عمّ صابر الذي آثرَ
الوحدةَ واتخذَ من الكتابِ صاحبًا له طيلةَ حياتِه تعاونُه زوجتُه الطّيّبةُ التي
ماتتْ منذ زمنٍ بعيدٍ وأصبحَ حزينًا طوال الوقتِ لا يجدُ راحتَه وسعادَته إلا بينَ
الكتبِ.
قلتُ:
إنه يكرهُ الأطفالَ ولا يريدُنا أنْ نلعبَ.
قالتْ
أمّي: عندما يكبرُ الإنسانُ يحتاجُ إلى مزيدٍ من الهدوءِ يا بنيّ و"عمّ صابرٍ"
قاربَ على السّبعينَ عامًا تقريبًا.
وأرى
أنّ تنتهزَ فرصةَ حلولِ شهرِ رمضانَ وأنْ تزورَهُ أنتَ وأصدقاؤكَ.
ولمّا أخبرتُ أصدقائي بأمرِهِ
واقترحتُ عليهم أنّ يقومَ أحدُنا بتناولِ طعامِ الفطورِ معَ عمّ صابر واصطحابِه
إلى المسجدِ لأداءِ صلاةِ التّراويح، وافقَ الجميعُ وتبدّلتْ حالُ عمّ صابر وأصبحَ
وجهُه مشرقًا بالابتسامةِ وهو يتوكّأُ على أحدِنا أثناء سيرِه للمسجدِ.
تابعونا
على الفيس بوك
مواضيع تهم
الطلاب والمربين والأهالي
قصص للأطفال
وحكايات معبّرة
إقرأ أيضًا
للمزيد
نريد الاسئله وحلها ....
ردحذف