حَلَّّقَ
النَّوْرَسُ فِي الْفَضَاءِ بَاسِطًا جَنَاحَيْهِ عَلَى الْهَوَاءِ. ودَارَ دَوْرَاتٍ سَرِيعَةً فَوْقَ شَاطِئِ الْبَحْرِ
مُنْسَابًا بَيْنَ قِمَمِ الصُّخُورِ. وَأَطْلَقَ أَصْوَاتًا مُتَتَالِيَةً.
كَأَنَّهُ يُعَبِّرُ عَنْ فَرْحَتِهِ وَحُبُورِهِ. ثُمَّ حَطَّ
عَلَى صَخْرَةٍ بَحْرِيَّةٍ سَمْرَاءَ، حَفَرَتْ فِيهَا اْلأَمْوَاجُ أَخَادِيدَ
عَمِيقَةً. وَغَطَّتْ جَنْبَيْهَا الطَّحَالِبُ الْخَضْرَاءُ. وَفَجْأَةً بَاغَتَتْهُ
مَوْجَةٌ وطَشَّتْهُ بِرَذَاذِهَا فَتَقَهْقَرَ بِسُرْعَةٍ. فَانْطَلَقَتْ مِنَ
الصَّخْرَةِ الْمُحَاذِيَةِ لَهُ ضَحِكَاتٌ مُسْتَرْسَلَةٌ لِفَتَاةٍ صَغِيرَةٍ
جَمِيلَةٍ، كَانَتْ تُتَابِعُ الْمَشْهَدَ بِفُضُولٍ.
هَذِهِ
الْبِنْتُ اِسْمُهَا رِيمَة وَهْيَ فَتَاةٌ هَادِئَةٌ، مَيَّالَةٌ إِلَى
الْعُزْلَةِ. فَقَدْ كَانَتْ تُؤْْثِرُ الْوِحْدَةَ عَلَى مُخَالَطَةِ الأَطْفَالِ
واللَّعِبِ مَعَهُمْ. وكَانَتْ لاَ
تَسْتَطِيعُ أَنْ تَصْبِرَ عَلَى أَذَاهُمْ.. فَكَانَتْ تَقْضِي يَوْمَهَا
تَتَأَمَّلُ الْبَحْرَ بمفردها.
كَانَ الْبَحْرُ
صَدِيقَهَا الْوَحِيدَ. وَكَانَتْ تُحِبُّهُ بِجَوَارِحِهَا، تُحِبُّ أَمْوَاجَهُ
الْهَادِرَةَ وَلَوْنَهُ اْلأَزْرَقَ. وَتُحِبُّ أَسْمَاكَهُ الَّتِي تَشُقُّ
مِيَاهَهُ، وطُيُورَهُ الَّتِي تَمْلأُ فَضَاءَهُ. وأَصْدَافَهُ الَّتِي تُرَصِّعُ
شَاطِئَهُ.
كَانَتْ رِيمَة
تَحْلُمُ أَحْيَانًا بِأَنْ تَحْمِلَ بِأَصَابِعَهَا مَوْجَةً صَغِيرَةً
فَتَأْخُذَهَا إِلَى غُرْفَتِهَا وتُنِيمُهَا فِي فِرَاشِهَا كَصَدِيقَةٍ
وَفِيَّةٍ.. وَكَانَتْ أَحْيَانًا أُخْرَى تَحْلُمُ بِأَنْ تَطِيرَ عَالِيًا
كَالنَّوْرَسِ وتَحُطَّ عَلَى غَمَامَةٍ فَتَسْتَمْتِعَ بِرُؤْيَةِ الْمَاءِ مِنْ
أَعْلَى وهُو يَتَلأََلأُ، كَمِرْآةٍ تَعْكِسُ أَشِعَّةَ الشَّمْسِ.. كَانَتْ
أَحْلاَمُهَا كَثِيرَةً.. كَثِيرَةَ جِدًّا.
كَانَتِ
الأَيَّامُ تَمُرُّ فَلاَ تَزِيدُهَا إِلاَّ اِنْطِوَاءً عَلَى نَفْسِهَا. فَهْيَ
قَلِيلَةُ الْكَلاَمِ دَائِمَةُ الصَّمْتِ... تَفِرُّ إِلَى الْبَحْرِ سَاعَةَ
خُلُوِّهِ مِنَ النَّاسِ وتَفِرُّ مِنْهُ عِنْدَ مَقْدَمِ أَوَّلَ قَدَمٍ.
بَدَأَتْ رِيمَة تَشْعُرُ بِالْمَلَلِ وَاْلانْقِبَاضِ ولَمْ تَعُدْ تَسْتَمْتِعُ
بِأَيِّ شَيْءٍ حَتَّى البَحْرُ.. أَجَلْ حَتَّى الْبَحْرُ... فَقَدْ فَقَدَ
بَرِيقَهُ وغَلَبَ عَلَيْهِ اللَّوْنُ الرَّمَادِيُّ وانْطَفَأَتْ أَلْوَانُهُ
وَعَادَتْ بَاهِتَةً شَاحِبَةً. وَلَمْ يَعُدْ يَجْذُبُهَا مَنْظَرُهُ وَلاَ
يَرُوقُهَا سِحْرُهُ.
وذَاتَ صَبَاحٍ
، قَصَدَتْ رِيمَة الْبَحْرَ فَفُوجِئَتْ بِأَمْرٍ غَرِيبٍ لَمْ تُصَدِّقْهُ
عَيْنَاهَا فَصَاحَتْ مُتَسَائِلَةً:
- يَا إِلَهِي. أَيْنَ
الْبَحْرُ؟ لَقَدْ تَحَوَّلَ إِلَى جِبَالٍ مِنَ الثُّلُوجِ وَالصُّخُورِ
الْجَلِيدِيَّةِ. وَهَبَّتْ عَلَيْهِ رِيَاحُ الْقَـرِّ وَالصَّقِيـعِ مُصَفِّرَةً
بِصَوْتٍ حَزِينٍ.. فَأَفْقَـدَتْهُ الْحَيَـاةَ وتَحَوَّلَتْ أَسْمَاكُهُ إِلَى
مَخْلُوقَاتٍ مَحْبُوسَةٍ فِي مُكَعَّبَاتٍ جَلِيدِيَّةٍ، كَأَنَّهَا تَمَاثِيلُ
فِي مُتْحَفِ الأَسْمَاكِ. وَغَطَّى البَيَاضُ كُلَّ شَيْءٍ.
كَانَتِ
السُّفُنُ عَالِقَةً فِي أَرْضٍ مُتَجَمِّدَةٍ مَنَعَتْهَا الْحَرَاكَ. وكَانَ
الصَّيَّادُونَ أَصْحَابُهَا يَدُورُونَ حَوْلَهَا وهُمْ أَشَدُّ عَجْزًا مِنْهَا.
وقَدِ انْقَطَعَتْ عَنْهُمْ أَسْبَابُ الرِّزْقِ. وقَرَّرُوا الْهِجْرَةَ وَتَرْكِ
الدِّيَارَ. فَأَقْفَرَتِ
الْقُرَى. وَتَحَوَّلَتِ الْبُيُوتُ إِلَى خَرَائِبَ مَهْجُورَةٍ.. أَمَّا
النَّوْرَسُ فَقَدْ حَطَّ عَلَى صَخْرَتِهِ الْجَلِيدِيَّةِ وَهُو يَرْتَعِدُ مِنْ
بَرْدٍ لَمْ يَعْتَدْهُ. وَكَانَ ُيفَكِّرُ فِي الْهِجْرَةِ. إِذْ لَمْ يَعُدِ
الْمَكَانُ يُنَاسِبُهُ. فَإِمَّـا أَنْ يُسَافِرَ وإِمَّا أَنْ يَنْقَرِضَ.
ولَكِنَّهُ كَانَ يَعِزُّ عَلَيْهِ تَرْكُ عُشِّهِ وَالأَهَمُّ مُفَارَقَةَ
صَدِيقَتِهِ.
وفَجْأَةً
قَرَّرَ النَّوْرَسُ أَنْ يَتَدَخَّلَ ويُنْقِِذَ رِيمَة مِنْ حَيْرَتِهَا فَقَالَ
لَهَا:
- أَتَدْرِينَ سَبَبَ مَا حَصَلَ يَا صَدِيقَتِي؟
أَجَابَتِ
الطِّفْلَةُ بِبَرَاءَةٍ:
- لاَ أَعْلَمُ.. وَلَكِنِّي أَتُوقُ إِلَى مَعْرِفَتِهِ.
- لَقَدْ فَقَدَ البَحْرُ الْحَرَارَةَ الَّتِي كَانَتْ تَسْكُنُهُ
وَتَبْعَثُ الْحَيَاةَ فِي كَائِنَاتِهِ.
- إِذَنْ سَنَنْتَظِرُ الشَّمْسَ
حَتَّى تَبْزُغَ فَتُذِيبَ الْجَلِيدَ. أَلَيْسَتْ هِيَ مَصْدَرَ الْحَرَارَةِ فِي
هَذَا الْكَوْنِ؟.
- وَلَكِنَّ الْبَحْرَ يَا
صَدِيقَتِي فِي حَاجَةٍ إِلَى دِفْءٍ مِنْ نَوْعٍ آخَرَ إِنَّهُ كَالدِّفْءِ
الَّذِي نَجِدُهُ فِي حَنَانِ الأُمِّ وفِي طِيبَةِ الأَبِ وَفِي إِخْلاَصِ
الصَّدِيقِ الْوَفِيِّ إِنَّهُ يَا رِيمَة دِفْءُ الْمَشَاعِرِ الَّذِي يُولَدُ
مِنْ تَحَابُبِ النَّاسِ وتَرَاحُمِهِمْ وتَوَادِّهِمْ.
- أَنْتَ حَكِيمٌ يَا نَوْرَسِي وكَلاَمُكَ لَمْ أَسْمَعْ مِثَلَهُ قَطُّ.
- هَذَا أَمْرٌ بَيِّنٌ فَأَنْتِ مُنْعَزِلَةٌ عَنِ
الْعَالَمِ لاَ تُكَلِّمِينَ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ. ولاَ تُبَادِلِينَ غَيْرَكِ
اْلأَفْكَارَ والآرَاءَ. وإِنَّمَا خَلَقَنَا اللَّهُ لِنُفِيدَ وَنَسْتَفِيدَ.
-هَلْ يُمْكِنُكَ أَنْ تَدُلَّنِي عَلَى طَرِيقَةٍ أُنْقِذُ
بِهَا الْبَحْرَ؟
-أَنْتِ تُحِبَّينَ الْبَحْرَ أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟ ضَعِي
يَدَيْكِ عَلَى سَطْحِهِ وَانْقُلِي إِلَيْهِ مَشَاعِرَكِ وأَحَاسِيسَكِ
الدَّافِئَةَ الصَّادِقَةَ.
فَعَلَتْ
رِيمَة مَا أَشَارَ بِهِ النَّوْرَسُ عَلَيْهَا وهَاهِيَ تَشْعُرُ بِقُشَعْرِيرَةٍ
تَسْرِي فِي جِسْمِهَا فَأَغْمَضَتْ عَيْنَيْهَا وَدَعَتْ رَبَّهَا بِكُلِّ
جَوَارِحِهَا أَنْ يُنْقِذَ الْبَحْرَ وَتَرَقْرَقَتْ دَمْعَتَانِ عَلَى
وَجْنَتَيْهَا وبَعْدَ لَحَظَاتٍ أَحَسَّتْ بِالثَّلْجِ يَتَفَتَّتُ تَحْتَ
رَاحَتَيْهَا الرَّقِيقَتَيْنِ ويَسِيلُ بِرِقَّةٍ ويَخْتَلِطُ بِدُمُوعِهَا
الْبَرِيئَةِ الدَّافِئَةِ.
صَاحَتْ رِيمَة
مِنْ هَوْلِ الْمُفَاجَأَةِ:
- "لَقَدْ
نَجَحْتُ، الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُشْفَى صَدِيقِي قَرِيبًا". ثُمَّ نَظَرَتْ
وَتَسَاءَلَتْ: وَلَكِنَّ الْبَحْرَ أَكْبَرُ مِنْ أَنْ أُنْقِذَهُ وَحْدِي...
فَقَالَ
النَّوْرَسُ مُعَلِّقًا:
- تُحِيطُ بِهَذَا الْبَحْرِ الْوَاسِعِ قُرًى وَمُدُنٌ يَسْكُنُهَا
أَطْفَالٌ كُثُرٌ. فَلِمَ لاَ تَطْلُبِينَ مُسَاعَدَتِهِمْ؟
- أَنَا لاَ أَعْرِفُهُمْ وهُمْ لاَ يَعْرِفُونَنِي فَمَاذَا أَنَا
فَاعِلَةٌ؟
- اكْتُبِي إِلَيْهِمْ رَسَائِلَ واطْلُبِي مُسَاعَدَتِهِمْ.
- فِكْرَةٌ رَائِعَةٌ، هَلْ
يُمْكِنُ أَنْ تَقُومَ أَنْتَ بِإِيصَالِهَا إِلَيْهِمْ؟
- يَا صَدِيقَتِي رِيمَة.. إِنَّنَا لَسْنَا فِي قِصَّةٍ مِنَ الْقِصَصِ
الْقَدِيمَةِ. فِلَمَ لاَ تَسْتَعْمِلِي الْبَرِيدَ الإِلِكْتُرُونِيَّ.
فَهُوأَسْرَعُ مِنِّي بِكَثِيرٍ؟
ضَحِكَتْ
رِيمَة وَهَزَّتْ رَأْسَهَا بِالْمُوَافَقَةِ. وانْطَلَقَتْ إِلَى حَاسُوبِهَا
وشَرَعَتْ فِي مُرَاسَلَةِ الأَطْفَالِ مِنْ كُلِّ الْبُلْدَانِ الَّتِي تُحِيطُ
بِالْبَحْرِ. وَتَشْرَحُ لَهُمُ الْحَلَّ الَّذِي تَوَصَّلَتْ إِلَيْهِ.
وفِي الْغَـدِ
هُرِعَ كـُلُّ الأَطْفَالِ مَـعَ أَهَالِيهِمْ إِلَى شَوَاطِئِهِمْ
الْجَلِيدِيّـَةِ وَاصْطَفُّوا عَلَى السَّوَاحِلِ فِي شَكْلِ حَلْقَةٍ
عِمْلاَقَةٍ ثُمَّ شَرَعُوا فِي وَضْعِ أَيْدِيهِمْ عَلَى سَطْحِ الْبَحْرِ
الْمُتَجَمِّدِ. وَبَدَتْ حَرَارَةُ أَجْسَادِهِمْ تَتَسَرَّبُ إِلَى الْمَكَانِ. وَكَانَتِ
الأَيَادِي الْمُتَشَابِكَةُ والأَجْسَادُ الْمُتَلاَصِقَةُ تَزِيدُ فِي
اتِّقَادِهَا وإِذْكَاءِ جُذْوَتَهَا. فَبَدَأَ الْجَلِيدُ يَنْقَشِعُ والصَّقِيعُ
يَتَبَدَّدُ.
كَانَ
الْمَشْهَدُ الْمُمْتَدُّ عَلَى آلاَفِ الْكِيلُومِتْرَاتِ أَجْمَلَ مَا يُمْكِنُ
أَنْ يَرَاهُ الإِنْسَـانُ حَيْثُ يَتَجَلَّى مَعْنَى التَّعـَاوُنُ وَالتَّآلُفُ
بَيْنَ أَطْفَـالٍ يَخْتَلِفُونَ فِي اللّـَوْنِ والدِّينِ واللُّغَةِ والْجِنْسِ
وَلَكِنَّهُمْ يَتَّفِقُونَ عَلَى حُبِّـهِمْ لِبَعْضِهِمْ ولِلْبَحْـرِ أَيْضًا.
وهَاهُمْ
يَصْنَعُونَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ قُوَّةً وطَاقَةً، لاَ يُمْكِنُ لأحَدٍ
بِمُفْرَدِهِ أَنْ يَحْصُلَ عَلَيْهَا مَهْمَا كَانَتْ بَرَاعَتُهُ.
لَمْ يَمْضِ
وَقْتٌ طَوِيلٌ حَتَّى دَبَّتِ الْحَيَاةُ فِي الْبَحْرِ. وتَعَالَتْ صَيْحَاتُ
الْحَمْدِ والشُّكْرِ لِلَّهِ عِنْدَمَا حَطَّتْ أَوَّلُ مَوْجَةٍ عَلَى
الشَّاطِئِ ثُمَّ تَبِعَتْهَا أَخَوَاتُهَا وَاحِدَةً تِلْوالأُخْرَى... وَهَاهِيَ
إِحْدَاهَا تَجْرِي مُنْدَفِعَةً. وتَرْتَطِمُ بِالصَّخْرَةِ السَّمْرَاءِ
فَتَتَنَاثَرُ قَطْرَاتُهَا كَكُرَيَّاتٍ فِضِّـيَّةٍ صَغِيرَةٍ وتُبَلِّلُ وَجْهَ
رِيمَة. فَتَسْتَفِيقُ مِنْ نُعَاسٍ غَشِيَهَا وهِيَ عَلَى الشَّاطِئِ. فَرَأَتْ
هَذَا الْحُلْمَ الْغَرِيبَ.
عَادَتْ رِيمَة
وَهِيَ مُقْتَنِعَةٌُ بِأَنَّ الصَّدَاقَةَ نِعْمَةٌ مِنَ اللّـَهِ تَكْسِرُ
جَلِيدَ الْعُزْلـَةِ وتُذِيبُ بُرُودَةَ الْوِحْدَةِ. لأَنَّ مَنْ يَهْجُرُ
النَّاسَ يَتَحَوَّلْ دَاخِلُهُ إِلَى مَا يُشْبِهُ الْبَحْرَ الْمُتَجَمِّدَ
بِلاَ حَيَاةٍ. وقَدْ قَرَّرَتْ أَنْ تَكْسِبَ صَدَاقَاتٍ كَثِيرَةٍ مِنْ كَامِلِ
أَرْجَاءِ الْعَالَمِ عَلَى أَنْ تَنْتَقِيَ مِنْهَا الصُّحْبَةَ الصَّالِحَةَ
والْمُخَالَطَةَ الطَّيِّبَةَ.
مواضيع تهم
الطلاب والمربين والأهالي
قصص للأطفال
وحكايات معبّرة
إقرأ أيضًا
للمزيد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق