"سر الجمل وحكمة الأمل"
في سالِفِ العَصرِ والأوانِ، في قَريةٍ ضارِبةٍ في عُمقِ الصَّحراءِ العَرَبيّةِ، عاشَ رَجُلٌ مُولَعٌ بحُبِّ جَمَلِهِ، لا يَفْتَرِقُ عَنْهُ ولا يُفارِقُهُ. كانا يَقطَعانِ الفَيافي ويَمْخُرانِ عُبابَ الرِّمالِ، يَرْعى الجَمَلُ ظِلالَ الخِيامِ، ويَشُدُّ الرَّجُلُ بِهِ أَزوادَ الأَيّامِ. لكن في يَومٍ أَغْبَرَ، اختَفَى الجَمَلُ كما تَتَلاشَى السَّرابُ بينَ كُثْبانِ الرِّمالِ.
جاشَتْ
في صَدْرِ الرَّجُلِ لَوْعَةُ الفِراقِ، وطافَ بالقَريةِ وما جاوَرَها من
القِفارِ، يَسأَلُ ساكِنَها والمارَّ، "هَلْ رَأَيْتُم جَمَلي
العَزيزَ؟" لكنَّهُم أَجابوا جَميعاً بالنَّفي، كَأَنَّما الجَمَلُ
ابتَلَعَهُ الغَيْبُ وانْمَحَتْ آثارُهُ.
أَيّامٌ
مَضَتْ كَأَنَّها دُهورٌ، ولم يَجِدِ الرَّجُلُ لجَمَلِهِ أَثَراً ولا خَبَراً،
حَتَّى لَقِيَ ثلاثةَ حُكَماءَ يَعبُرونَ تِلْكَ الدِّيارِ. كانتْ في قَلبِهِ
بارِقَةُ أَمَلٍ أن يَحمِلوا شيئاً من العِلْمِ عن مَصيرِهِ، فَسَأَلَهُم
مُستَعْطِفاً: "أَيُّها الحُكَماءُ الأَفاضِلُ، هَلْ لَمَحْتُم جَمَلي الّذي
تَاهَ عنِّي في هَذِهِ الفَلاةِ؟"
تَبادَلَ
الحُكَماءُ النَّظَراتِ فيما بَينَهُم، ثُمَّ تَقَدَّمَ الأَوَّلُ وقالَ:
"أَكانَ جَمَلُكَ أَعْوَرَ العَيْنِ، لا يَرى إلّا بإِحدى
مُقْلَتَيْهِ؟" انْدَهَشَ الرَّجُلُ وقالَ: "حَقّاً، لَقَدْ أَصَبْتَ،
هُوَ كَذلِكَ!"
قالَ
الثَّاني: "وَهَلْ كانَ في مِشْيَتِهِ عَرَجٌ، كَأَنَّما تَثْقُلُ قَدَمُهُ
الواحِدَةُ؟" فاستَغْرَبَ الرَّجُلُ من دِقَّةِ الوَصْفِ وأَجابَ:
"نَعَمْ، هُوَ كَذلِكَ!"
ثُمَّ
جاءَ دَوْرُ الثَّالِثِ وسَأَلَهُ: "أَكانَ يَحْمِلُ فَوْقَ ظَهْرِهِ
حَمُولَتَيْنِ مُتَبايِنَتَيْنِ، العَسَلَ في جانِبٍ، والحُبُوبَ في
الآخَرِ؟" ازْدَادَ أَمَلُ الرَّجُلِ وبَدا السُّرورُ على مُحَيَّاهُ وقالَ:
"بَلى، بَلى، كَيْفَ عَرَفْتُمْ؟ أَيْنَ جَمَلِي؟ دُلُّونِي عَلَيْهِ!"
لكنَّ
الحُكَماءَ الثَّلاثَةَ أَجابوا بصَوْتٍ واحِدٍ: "لَمْ نَرَ جَمَلَكَ قَطُّ...!
اغْتاظَ
الرَّجُلُ وغَمَرَتْهُ الحَيْرَةُ، فَصاحَ بِهِم: "كَيْفَ تَزْعُمونَ ذلِكَ
وأَنْتُم لَمْ تَرَوا جَمَلِي؟ أَأَنْتُم تَهْزَؤونَ بي؟ أَمْ سَرَقْتُمُوهُ
وتَحْتالونَ عَلَيَّ؟"
سارَعَ
الرَّجُلُ والحُكَماءُ إلى مَلِكِ القَريةِ، يَلْتَمِسونَ عِنْدَهُ الحُكْمَ
والفَصْلَ. عَرَضَ الرَّجُلُ شَكْواهُ وقالَ: "يا مَوْلايَ، إِنَّ هَؤُلاءِ
الحُكَماءَ يَعْلَمونَ من أَمْرِ جَمَلِي ما لا يَعْلَمُهُ غيرُ صاحِبِهِ،
فَلَعَلَّهُم سارِقُوهُ وأَخْفَوهُ عَنِّي."
سَأَلَ
المَلِكُ الحُكَماءَ: "كَيْفَ عَلِمْتُمْ بِأَمْرِ الجَمَلِ وأَوْصافِهِ إِنْ
لَمْ تَرَوْهُ بأَعْيُنِكُم؟" فقالَ الحَكيمُ الأَوَّلُ: "رَأَيْتُ
أَثَرَ العُشْبِ المَأْكُولِ على جانِبٍ واحِدٍ من الطَّريقِ، فاستَدْلَلْتُ أنَّ
الجَمَلَ أَعْوَرُ العَيْنِ، لا يَرى العُشْبَ إلّا حَيْثُ يُبْصِرُ."
ثُمَّ
قالَ الحَكيمُ الثَّاني: "وَجَدْتُ الحُبُوبَ مُتَناثِرَةً في جانِبٍ
والعَسَلَ يَسيلُ في الجانِبِ الآخَرِ، فَظَنَنْتُ أنَّ الجَمَلَ كانَ يَحْمِلُ
حَمُولَتَيْنِ مُتَفاوِتَتَيْنِ في الوَزْنِ."
وأَضافَ
الثَّالِثُ: "وَلاحَظْتُ اختِلافَ أَثَرِ الحَوافِرِ على الرِّمالِ، فَكانَ
جانِبٌ مِنْها أَثْقَلَ من الآخَرِ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَعْرُجُ في مِشْيَتِهِ."
عَجِبَ
المَلِكُ من ذَكاءِ الحُكَماءِ وأَثْنى على فِطْنَتِهِم وقالَ: "إِنَّ
هَؤُلاءِ أَبْرِياءُ، وما كانَ لِسِرِّهِم إلّا ما رَأَتْ أَعْيُنُهُمْ وفَكَّرَ
فيهِ عَقْلُهُم." ثُمَّ التَفَتَ إلى الرَّجُلِ وقالَ: "اِنْطَلِقْ إلى
الطَّريقِ الَّذي وَصَفُوهُ، لَعَلَّ في نِهايةِ رِحْلَتِكَ تَجِدُ ضالَّتَكَ."
حِينَها أَدْرَكَ الرَّجُلُ خَطَأَهُ، واعْتَذَرَ إلى الحُكَماءِ عن سُوءِ ظَنِّهِ بِهِم. سارَ على دَرْبِ نُصْحِهِم، يَتَتَبَّعُ الآثارَ في الرِّمالِ، حَتّى اهْتَدَى أَخيراً إلى جَمَلِهِ العَزيزِ. أَمّا المَلِكُ، فقد سَعِدَ بِحِكْمَةِ هَؤُلاءِ الحُكَماءِ، وجَعَلَهُم رُفَقاءَ مَشُورَتِهِ وأَعْمِدَةَ حُكْمِهِ، تُشْرِقُ بِهِم أَيّامُ المَلِكِ وتَزْدَهِرُ في ظِلالِهِم الدِّيارُ.
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق