البِيئَةُ تُشَكِّلُ الطِّباعَ والسّلوكَ
فِي سالِفِ الزَّمانِ، وَفِي دِيَارٍ بَعِيدَةٍ، كَانَتْ هُنَاكَ مَمْلَكَةٌ يَحْكُمُهَا مَلِكٌ جَلِيلٌ، ذُو سَطْوَةٍ وَقُوَّةٍ، يَعْشَقُ الطُّيُورَ عِشْقًا فَاقَ كُلَّ خَيَالٍ. وَبَيْنَ يَدَيْهِ كَانَ يَقْبِضُ عَلَى بَبَّغَاءَيْنِ، كَأَنَّهُمَا جَوْهَرَتَانِ فِي كَفِّهِ، بَاذِخَتَيْنِ بِحُلَّةٍ مِنْ رِيشٍ أَخْضَرَ زَاهٍ، يَخْتَبِئُ فِي عُيُونِهِمَا بَرِيقُ الْفُضُولِ كَأَنَّمَا هُمَا مِرْآةٌ لِلطَّبِيعَةِ. وَلَكِنْ، إِذْ بَبَّغَاءٌ مِنهُمَا يَفِلِتُ مِنْ أَسْرِ الْقَصْرِ، وَيَمْتَطِي جَنَاحَيْهِ صَوْبَ الْمَجْهُولِ.
طَارَ
البَبَّغَاءُ الهَارِبُ بَعِيدًا عَن قَصْرِ المَلِكِ، حَتَّى عَثَرَ عَلَى
مَأْوًى جَدِيدٍ فِي كُوخٍ صَغِيرٍ عَلَى أَطْرَافِ الغَابَةِ، يَسْكُنُهُ رَجُلٌ
طَيِّبٌ، حَكِيمُ العَقْلِ، رَقِيقُ النَّفْسِ. اِسْتَقْبَلَهُ الرَّجُلُ
بِحَفَاوَةٍ، وَأَغْدَقَ عَلَيْهِ مِنْ لُطْفِهِ وَحِكْمَتِهِ مَا جَعَلَهُ
يَلِينُ وَيَهْتَدِي. وَكَانَ الرَّجُلُ ذُو فِطْنَةٍ وَبَصِيرَةٍ، فَانْكَبَّ
يُعَلِّمُهُ مَكَارِمَ الأَخْلَاقِ، وَيَبُثُّ فِي قَلْبِهِ دُرُوسَ الأَدَبِ
وَالتَّوَاضُعِ. سَمِعَ البَبَّغَاءُ كُلَّ كَلِمَةٍ، وَوَعَى كُلَّ حِكْمَةٍ،
حَتَّى غَدَا لِسَانُهُ عَذْبًا، وَكَلَامُهُ يُشْبِهُ كَلَامَ الحَكِيمِ فِي
رِقَّةِ المَنْطِقِ وَحُسْنِ الحَدِيثِ.
وَفِي
الجَانِبِ الآخَرِ، ظَلَّ البَبَّغَاءُ الثَّانِي فِي أَرْوِقَةِ القَصْرِ، حَيْثُ
الضَّجِيجُ وَالمُزَاحُ الفَظُّ لَا يَهْدَأُ. أَحَاطَ بِهِ رِجَالٌ لَا
يَعْرِفُونَ لِلذَّوْقِ بَابًا، وَلَا لِلأَدَبِ طَرِيقًا. أَلِفَ البَبَّغَاءُ
تِلْكَ الصُّحْبَةَ، فَصَارَ يُقَلِّدُهُمْ، وَامْتَلَأَ حَدِيثُهُ بِالغِلْظَةِ،
يُطْلِقُ النِّكَاتَ الجَارِحَةَ، وَيَتَحَدَّثُ بِلَا مُبَالَاةٍ، وَقَدْ غَابَ
عَنْ لِسَانِهِ رِقَّةُ اللَّفْظِ وَطِيبُ الكَلِمِ.
وَذَاتَ
يَوْمٍ، أَرَادَ المَلِكُ أَنْ يُبَاهِيَ بِبَبْغَائِهِ أَمَامَ ضُيُوفِهِ مِنَ
الأُمَرَاءِ وَالنُّبَلَاءِ. أَقْبَلَ الطَّائِرُ إِلَى مَجْلِسِهِمْ، وَتَكَلَّمَ
بِلِسَانِهِ الَّذِي تَعَلَّمَهُ فِي القَصْرِ، فَإِذَا هُوَ كَالسَّيْفِ
الجَارِحِ فِي حَدِيثِهِ، فَصُدِمَ الجَمْعُ وَخَابَ أَمَلُ المَلِكِ، وَأَحَسَّ
بِخَيْبَةٍ تَسْرِي فِي قَلْبِهِ كَجَمْرَةٍ.
وَفِي
ذَاتِ اللَّحْظَةِ، مَرَّ مُسَافِرٌ أَمَامَ كُوخِ الرَّجُلِ الحَكِيمِ، فَسَمِعَ
صَوْتَ البَبَّغَاءِ المُهَذَّبِ، فَإِذَا هُوَ حَدِيثٌ عَذْبٌ، وَكَلَامٌ
يُطْرِبُ السَّمْعَ. ظَنَّ المُسَافِرُ أَنَّ المَلِكَ سَيَجِدُ فِي هَذَا
الطَّائِرِ مَا يُرْضِي أُذُنَهُ وَيُبْهِجُ قَلْبَهُ، فَأَخَذَ البَبَّغَاءَ
المُهَذَّبَ وَذَهَبَ بِهِ إِلَى القَصْرِ. هُنَاكَ، اِسْتَقْبَلَ البَبَّغَاءُ
المَلِكَ وَضُيُوفَهُ بِتَحِيَّةٍ رَقِيقَةٍ وَأَدَبٍ جَمٍّ، فَانْبَهَرَ
الجَمْعُ، وَضَجَّ القَصْرُ بِالتَّصْفِيقِ وَالهُتَافِ. تَعَجَّبَ المَلِكُ
مِمَّا رَأَى، وَامْتَلَأَ صَدْرُهُ بِالفَرَحِ، لَكِنَّهُ لَمْ يُخْفِ دَهْشَتَهُ.
سَأَلَ
المَلِكُ المُسَافِرَ عَنْ سِرِّ هَذَا البَبَّغَاءِ الرَّائِعِ، فَقَصَّ عَلَيْهِ
الحِكَايَةَ؛ حِكَايَةَ الطَّائِرِ الهَارِبِ مِنَ القَصْرِ، وَكَيْفَ حَطَّ
رِحَالَهُ فِي كُوخِ الرَّجُلِ الحَكِيمِ، وَتَعَلَّمَ مِنْهُ الأَخْلَاقَ
الرَّفِيعَةَ. حِينَئِذٍ، اِلْتَفَتَ المَلِكُ إِلَى بَبْغَائِهِ الفَظِّ، ثُمَّ
إِلَى البَبَّغَاءِ المُهَذَّبِ، وَوَقَعَتْ فِي قَلْبِهِ عِبْرَةٌ. أَدْرَكَ
أَنَّ الطُّيُورَ، وَإِنْ تَشَابَهَتْ أَجْسَادُهَا، إِلَّا أَنَّ أَرْوَاحَهَا
تَتَلَوَّنُ بِأَلْوَانِ مَنْ حَوْلَهَا، وَتَتَشَكَّلُ بِظِلَالِ بِيئَتِهَا،
فَكَانَ المَأْوَى وَالمُعَلِّمُ، هُمَا الصَّانِعَانِ الحَقِيقِيَّانِ
لِلْفَضَائِلِ وَالطِّبَاعِ.
وَهَكَذَا
تَعَلَّمَ المَلِكُ دَرْسًا عَمِيقًا، بِأَنَّ الحِكْمَةَ لَيْسَتْ فِي
الجَوَاهِرِ المَكْنُونَةِ، بَلْ فِي مَا يُحِيطُ بِهَا مِنْ نُبْلِ القُلُوبِ
وَصُحْبَةِ الأَتْقِيَاءِ.
قصة وحكمة: الشيخ الحكيم وحزمة العصي
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق