القَناعَةُ كَنْزٌ لا يَفْنى، والطَّمَعُ يُهْلِكُ صاحِبَهُ
في سالِفِ الأَزمانِ، وفي قريةٍ نائيةٍ تَكْتَنِفُها الغاباتُ والجِبالُ، كان هناكَ رَجلٌ عَجُوزٌ كَهْلٌ، طاعِنٌ في السِّنِّ، وقلبُهُ يَنبِضُ بالرَّحمةِ والرَّأفَةِ. وبينما كان يَمشي في إحدى الأيامِ، إذْ به يَعْثُرُ على عُصْفُورٍ صَغيرٍ، وقد نالتْ منه الجِراحُ ما أفقدَهُ القُدْرةَ على الطَّيرانِ، فغَدا عاجِزًا لا حَولَ له ولا قُوَّةَ.
رَقَّ قلبُ العَجُوزِ للمَخلُوقِ الضَّعِيفِ، وأخذَ على
عاتِقِهِ الاعتِناءَ به. أطعمَهُ ممَّا رزَقَهُ الله، وأدفأَهُ حينَ يَهُبُّ
البَرْدُ، فلم يَزَلِ العُصْفُورُ يَتَعافى حتَّى استعادَ قُوَّتَهُ، وباتَ
يُغَرِّدُ بألحانِ الشُّكرِ والامتِنانِ.
بَيْدَ أنَّ زَوجَةَ العَجُوزِ، وكانت تُدعى سانان، كانت
تَبْغُضُ العُصْفُورَ وتُضمِرُ له العَداءَ، إذ رأتْ فيه مَصدرَ إزعاجٍ ومثارًا للسَّخطِ.
كانت تَراهُ يَعْبَثُ بِعَجينَتِها الخاصَّةِ، فتَضِيقُ ذَرْعًا به، وتَشْتَعِلُ
في صَدرِها نِيرانُ الغَضَبِ.
وذاتَ يَومٍ، وبينما كان العَجُوزُ في السُّوقِ يَبتاعُ
ما يَحتاجُهُ البيتُ، اشتَعَلَ الغَضَبُ في قَلْبِ سانانَ عندما رَأَتِ
العُصْفُورَ يأكُلُ من عَجِينَتِها. فانْدَفَعَتْ نحوَ العُصْفُورِ في فَوْرَةٍ من
السَّخَطِ، وأَمْسَكَتْهُ، ثُمَّ قَطَعَتْ لِسانَهُ وتَرَكَتْهُ يَفِرُّ هائمًا
بينَ الغُيومِ، وقد حَمَلَ في صَدرِهِ حُزْنًا لا يَنْدَمِلُ.
عادَ الرَّجلُ العَجُوزُ إلى بَيْتِهِ، ولمَّا عَلِمَ بفِعلِ
زَوجتِهِ الشَّنِيعِ، أحَسَّ كأنَّ الجِبالَ قد انْهارَتْ على صَدرِهِ، فَبَكى
حَزينًا وأخذَ قَرارًا لا رَجْعَةَ فيهِ: سَيَبحَثُ عنِ العُصْفُورِ مَهْمَا
كَلَّفَهُ الأَمْرُ، ويَستعيدُ صَديقَهُ الصَّغيرَ.
خَرَجَ الرَّجُلُ العَجُوزُ، يَجُوبُ الجِبالَ والأَوْدِيَةَ،
يَتَتَبَّعُ أَثَرَ العُصْفُورِ من وَادٍ إلى وَادٍ، ومِن جَبَلٍ إلى جَبَلٍ،
حتَّى وَجَدَ مَأوَى العُصْفُورِ في أَعماقِ الجِبالِ، بينَ الأَشْجارِ الباسِقاتِ
والمِياهِ الجارِيَةِ.
رَحَّبَتِ العَصافيرُ به، واستَقْبَلَتْهُ بالرَّقصِ
والزَّغاريدِ، وأقَامَتْ له وَلِيمَةً عَظِيمَةً. وفي نِهايَةِ الضِّيافَةِ،
قَدَّمُوا له هَدِيَّتَينِ: سَلَّتَينِ، إِحداهُما ثَقِيلَةٌ والأُخْرَى
خَفِيفَةٌ، وقالوا له: "اخْتَرْ ما تَشاءُ يا صاحِبَ القَلْبِ الطَّيِّبِ."
فَلَمْ يَشَأِ العَجُوزُ أنْ يُثْقِلَ عليهم، فاخْتارَ السَّلَّةَ الخَفِيفَةَ
وعادَ بها إلى بَيْتِهِ.
وحينما فَتَحَ السَّلَّةَ في مَنْزِلِهِ، كانتِ
المُفاجَأَةُ، إذْ وَجَدَها تَعِجُّ بالكُنُوزِ الثَّمِينَةِ، والجَواهِرِ
اللَّامِعَةِ، فَشَكَرَ اللهَ وشَكَرَ العَصافيرَ، وحَمِدَ نَصِيبَهُ.
وَلَكِنْ لَمَّا رَأَتْ زَوجَتُهُ سانان ما في
السَّلَّةِ من كُنُوزٍ، تَفَجَّرَ الطَّمَعُ في نَفْسِها، وأَضْمَرَتْ في قَلْبِها
مَكْرًا. قَرَّرَتْ أنْ تَذْهَبَ بِنَفْسِها إلى العَصافيرِ، تَسْعى وراءَ
السَّلَّةِ الثَّقِيلَةِ، وقد أَغْراها بَريقُ الذَّهَبِ ولَمعَةُ الجَواهِرِ.
تَوَجَّهَتْ إلى الجِبالِ، ولم تُلْقِ بالًا لِطِيبِ الضِّيافَةِ ولا نِعْمَةِ
الكَرَمِ، بَلْ طَلَبَتِ السَّلَّةَ الثَّقِيلَةَ بِوَقاحَةٍ وتَعَجْرُفٍ.
فأعطَتْها العَصافيرُ السَّلَّةَ، وفي عَيْنَيْها بَريقُ
الطَّمَعِ، لكِنَّها لم تَكَدْ تَمْضِي في طَرِيقِها عائِدَةً حتَّى غَلَبَها
فُضُولُها. فَتَحَتِ السَّلَّةَ قبلَ أن تَصِلَ إلى بَيْتِها، وإذا بها تَجِدُ
الثَّعابينَ والحَشراتِ تُهاجِمُها! ارْتَعَدَتْ فَرائِصُها ووَلَّتْ هارِبَةً،
تارِكَةً السَّلَّةَ خَلْفَها، وهي تَصْرُخُ وتَسْتَغِيثُ، فكانَ جَزاءُ الطَّمَعِ
ما نالَها من الرُّعْبِ والهَوانِ.
وعادَ الرَّجُلُ العَجُوزُ إلى بَيْتِهِ، يَعِيشُ مع صَديقِهِ العُصْفُورِ حَياةً هادِئَةً يَمْلَؤُها الرِّضا، وقد تَعَلَّمَتْ سانانُ دَرْسًا عَميقًا عن الطَّمَعِ والجَشَعِ، وتَبَدَّلَتْ حالُها من بَعْدِ ذاكَ اليَومِ، لِتَنْعَمَ بِحَياةٍ يَغْمُرُها التَّواضُعُ وَالنَّدَمُ، مُفَضِّلَةً عَلَى الكُنُوزِ أَثْمَنَها وَأَعْظَمَها: كَنْزُ القَناعَةِ وَالرِّضا.
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق