غرور
كانت النملةُ تُهرولُ فوقَ المائدةِ حاملةً فتاتَ خبزٍ كبيرةً إلى جحرِها القريبِ حينَ اشتعلَ فجأةً عودُ ثقابٍ، وتأججتِ النارُ صاعدةً من رأسِه، ووقفَ الثقابُ قاطعاً على النملةِ الطريقَ إلى الجُحرِ وصاحَ بها:
قفي،
كيفَ تمرينَ بي هكذا دونَ أن تحييني وتنحني لي؟ ألا تعرفينَ أنني يمكنني أن
أحرقَكِ في لحظةٍ واحدةٍ فلا يصبحَ لكِ أثرٌ؟
قالتِ
النملةُ وهيَ تُعدّلُ من وضعِ الفتاتةِ التي تحملُها:
أعرفُ
ذلك، لكنَّ ما أكثرَ الأشياءِ التي يمكنُ أن تقضيَ عليّ في هذه الدنيا! ولو فَكَّرتُ
بها جميعاً ما خرجتُ مطلقاً من الجُحرِ.
ازدادَ
توهّجُ لهبِ الثقابِ وقالَ:
حسناً،
بما أنكِ تعترفينَ هكذا بضعفِكِ، فإنَّ ذلك يُسَهِّلُ عليَّ الأمرَ كثيراً، لقد
قررتُ أن أحرقَكِ أيتها النملةُ.
فزعتِ
النملةُ وقالتْ: ولماذا تحرقني بلا ذنبٍ أيها الثقابُ؟
قالَ
الثقابُ: هذا طبعاً ليسَ من شأنِكِ، ولكنَّ بما أنكِ ستموتينَ الآنَ في الحالِ
فسأكونُ كريماً معكِ وأجيبُ على سؤالكِ، إنني سأحرقُكِ لأنني أريدُ أن أُثبتَ
لنفسي أنني قويٌّ ولن يحدثَ ذلك إلا حينما أراكِ تنكمشينَ وتختفي معالمُكِ ثم
تفارقينَ الحياةَ لمجردِ أنني أقتربُ منكِ.
ثم
قالَ مزهوّاً: ومن الأفضلِ لكِ ألا تحاولي الهروبَ أو الاختباءَ لأنني أينما
تذهبينَ سألحقُ بكِ.
ومالَ
الثقابُ بلهبهِ ناحيةَ النملةِ فارتعشتْ سيقانُها وأفلتتِ الفتاتةُ من بينِ يديها،
نظرتِ النملةُ إلى الفتاتةِ وهيَ تتدحرجُ أمامَها وضايقَها كثيراً أن تضيعَ هباءً
إنْ هي احترقتْ قبلَ أن توصلَها إلى الجحرِ، فتوسلتْ إلى الثقابِ أن يُؤَجِّلَ
حرقَها ويعطيَها مهلةً حتى توصلَها إلى إخوانِها في الجحرِ وتعودَ إليه، قالت:
أرجوكَ،
إخوتي في الجحرِ ينتظرونَ هذا الطعامَ.
أجابَ
الثقابُ بحزمٍ:
آسفٌ،
ليسَ لديَّ وقتٌ، لابدَّ أنْ أحرقَكِ الآنَ.
وفكرتِ
النملةُ سريعاً وقالتْ لنفسها: لابدَّ أنْ إخوتي سيتدبّرونَ أمرَ الطعامِ إذا لم
أعدْ إليهم، أما أنا، فأعرفُ أنه من السهلِ أنْ أموتَ في أيِّ لحظةٍ، وإنْ لم يكنْ
بالثقابِ سيكونُ بغيرِه، وإذا كنتُ سأموتُ الآنَ على يدِ هذا الثقابِ المغرورِ
فسوفَ أموتُ بشجاعةٍ، فلو أنني جريتُ الآنَ وحاولتُ الهروبَ سوف يغترُّ أكثرَ
بقوّتِهِ وسَتُمْتِعُهُ أكثرَ مطاردتي، ولابدَّ أنهُ سيلحقُ بي ويقضي عليَّ في
نهايةِ الأمرِ.
ولهذا
وقفتِ النملةُ منتصبةً، ونظرتْ أمامَها بهدوءٍ ولم تُظهرْ خوفَها من الثقابِ،
بينما تنتظرُ اللحظةَ التي سينقضُّ عليها لهبُهُ ويحرقُها، وبالطبعِ اغتاظَ
الثقابُ كثيراً لشجاعتها وثباتِها، وبينما يقتربُ بنارِه ناحيتَها، فكّرَ في أنْ
يقومَ بحركةٍ استعراضيةٍ بلهبِه أمامَها كي يُرعبَها ويجعلَها تحاولُ الهروبَ.
أما
ما وقعَ بعدَ ذلك، فكان غريباً بحقٍّ، فقد طارَ لهبُهُ بالفعلِ صاعداً إلى أعلى
وهابطاً إلى أسفلَ في حركةٍ عنيفةٍ، لكنهُ أُلقيَّ بهِ منطفئاً في منفضةِ السجائرِ
القريبةِ ولم تكن رقصةُ الثقابِ العنيفةُ منهُ هي الحركةَ الاستعراضيةَ التي
اعتزمَ القيامَ بها لإرعابِ النملةِ وإنما كانت حركةَ يدِ الرجلِ الذي أشعلَ بهِ
سيجارتهُ منذ قليلٍ حينما كانتِ النملةُ قادمةً تهرولُ فوقَ المائدةِ، وكانَ
الرجلُ شارداً تماماً حتى أنهُ نسيَ أنْ يطفئَهُ حتى بدأَ اللهبُ يلسعُ إصبعهُ،
فرفعَ يدَهُ وخفضَها بقوةٍ حتى انطفأَ.
أما
النملةُ التي كانت حينذاك شاحبةً تُداري ارتعاشَها بصعوبةٍ وتحاولُ إغماضَ عينيها
كي لا ترى ما سيفعلُهُ بها اللهبُ، فقدْ تلفتتْ حولها وهيَ لا تصدقُ أنها نجتْ،
وإذ أدركتْ أخيراً ما حدثَ، حملتِ الفتاتةَ من جديدٍ وواصلتْ سيرَها إلى الجحرِ،
وعندَ مرورِها بمنفضةِ السجائرِ، صعدتْ فوقَ حافتها ونظرتْ إلى جثةِ عودِ الثقابِ،
كانَ كفتيلٍ من رمادٍ، معوجاً منكمشاً ومسودّاً تماماً، وكانت منفضةُ السجائرِ
مقبرتَهُ الزجاجيةُ مازالت تتصاعدُ منها رائحةُ احتراقِه، هزتِ النملةُ رأسَها
وقالتْ:
كمْ
أعماهُ الغرورُ، فلمْ يُدركْ أنهُ يحترقُ باللهبِ نفسِهِ الذي أرادَ أنْ يحرقني
بهِ!
وبينما
كانتْ تهبطُ من فوقِ المنفضةِ، فكرتْ بالنورِ الساطعِ الذي كانَ يطفرُ من جسدِ
الثقابِ منذ قليلٍ والقوةِ التي كانَ عليها، وكيفَ اختفى ذلكَ كلُّهُ سريعاً
وتنهّدتْ قائلةً: هكذا هي الدنيا!
وواصلتْ
هرولتَها إلى الجحرِ.
آمال
الميرغني
قصة وحكمة: الشيخ الحكيم وحزمة العصي
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق