رحمةٌ في ظُلمات الليل
كانَ عبدُ اللهِ بنُ المباركِ رجلًا صالحًا ورِعًا، وُلِدَ في خراسانَ، وعاشَ فيها شَطرًا من عُمرِهِ، ثم استكملَ مسيرتَهُ في العراقِ حيثُ قضى نَحبَهُ. وها نحنُ اليومَ نقفُ على قِصَّةٍ من حياتِهِ تَفيضُ بالعِبَرِ، تروي لنا عن بَرَكَةِ الصدقاتِ والتجارةِ مع اللهِ، وعن صِدقِ النيةِ في القولِ والعملِ.
في
أحدِ الأعوامِ، حينما عَزَمَ ابنُ المباركِ على أداءِ فريضةِ الحجِّ، خرجَ ليلًا مُوَدِّعًا
أصحابَهُ، يَمشي في ظِلالِ الليلِ، يَنظرُ في وجوهِهِم وقلوبِهِم، فإذا بهِ يرى
مشهدًا هزَّ كيانَهُ وأرعدَ أوصالَهُ. كانت هناكَ امرأةٌ تنحني في العَتَمةِ على
كومةٍ من القمامةِ، تلتقطُ منها دجاجةً ميتةً وتضعُها تحتَ ذِراعِها، ثم تمضي في خفيةٍ.
ناداها
عبدُ اللهِ بصوتٍ يحملُ استغرابًا واستنكارًا: "ما تصنعينَ يا أَمَةَ
اللهِ؟" فردَّتْ عليهِ بصوتٍ يخالطُهُ الحزنُ والألَمُ: "يا عبدَ اللهِ،
دعِ الخلقَ للخالِقِ، فلهُ تعالى في خلقِهِ شُؤونٌ". فقالَ لها ابنُ
المباركِ، وقد أخذَتْهُ الرأفةُ: "أقسمتُ عليكِ باللهِ أنْ تُخبِريني بحالِكِ".
تنهَّدَتِ
المرأةُ، وكأنَّ جبالَ الهمومِ قد تجمَّعتْ في صدرِها، وقالتْ: "أما وقد
أقسمتَ، فإني أُخبِرُكَ. قد أحلَّ اللهُ لنا الميتةَ عند الضرورةِ. أنا أرملةٌ،
أمٌّ لأربعِ بناتٍ، قد غيَّبَ الموتُ عائلَنا، واشتدَّتْ بنا الحالُ حتى نَفِدَ
منا المالُ. طرقتُ أبوابَ الناسِ، فما وجدتُ قلوبًا رحيمةً. فخرجتُ أبحثُ عن لقمةٍ
لبناتي اللواتي أحرقَ الجوعُ أكبادَهُنَّ، فوجدتُ هذه الميتةَ. أفَتَراني
أُجادلُكَ فيها؟"
فاضتْ
عينا ابنِ المباركِ بالدُّمُوعِ، وخفقَ قلبُهُ بحرقةٍ. أخرجَ ما معهُ من المالِ،
الذي كان يَدَّخِرُهُ للحجِّ، ومدَّهُ إليها قائلًا: "خُذي هذه الأمانةَ، فهي
لكِ ولأيتامِكِ." أخذتِ المرأةُ المالَ، وعادتْ إلى بناتِها شاكرةً، تروي
لهُنَّ كرمَ ابنِ المباركِ، وكيفَ جعلَ اللهُ الفَرَجَ على يديه.
أمَّا
ابنُ المباركِ، فعادَ إلى دارِهِ، مستقرًّا في بلدِهِ، بينما خرجَ الحُجَّاجُ من
قومِهِ إلى بيتِ اللهِ الحرامِ. أدَّوا المناسكَ وعادوا وهم يلهجونَ بالشكرِ لعبدِ
اللهِ بنِ المباركِ، يروونَ فضلَهُ عليهم، ويقولونَ: "جزاكَ اللهُ خيرًا يا
ابنَ المباركِ، فما رأينا منكَ في الحجِّ إلا خيرًا، وما جلسنا مجلسًا إلا كنتَ
فيهِ المُعينَ والمُعلِّمَ، ولا رأينا أتقى منكَ في العبادةِ."
استغربَ
ابنُ المباركِ من قولِهِم، فهو لم يبرحْ بلدَهُ، ولا أرادَ أن يكشفَ لهم سرَّهُ.
وبينما هو في حيرتِهِ تلكَ، رأى في المنامِ رجلًا يشعُّ وجهُهُ نورًا، يقولُ لهُ:
"السلامُ عليكَ يا عبدَ اللهِ، ألا تدري من أنا؟ أنا محمدٌ رسولُ اللهِ،
حبيبُكَ في الدنيا، وشفيعُكَ في الآخرةِ. جزاكَ اللهُ عن أُمَّتي خيرًا يا ابنَ
المباركِ، فقد أكرمتَ أمَّ اليتامى وسترتَها، وكما سترتَها، فقد سترَ اللهُ عليكَ.
لقد بعثَ اللهُ مَلَكًا على صورتِكَ، يطوفُ مع أهلِ بلدَتِكَ في مناسكِ الحجِّ،
وكتبَ لكلِّ حاجٍّ ثوابَ حَجَّةٍ، وكتبَ لكَ ثوابَ سبعينَ حَجَّةً."
ثم
انقطعَ المنامُ، وابنُ المباركِ غارقٌ في الدموعِ، يهمسُ لنفسهِ: "يا مَنْ
تتباهونَ بكثرةِ الحجِّ والعمرةِ والطوافِ بالكعبةِ، طُوفوا حولَ الفقراءِ، حتمًا
ستجدونَ اللهَ عندَهُم. فاسألْ نفسكَ يا بُنَيَّ، أينَ نحنُ من أولئكَ الذينَ
يُؤثِرونَ الآخرةَ على الدنيا؟"
فكانتْ تلكَ القصةُ درسًا عظيمًا، لا تزالُ الألسُنُ ترويها، والقلوبُ ترنو إليها، تدعو إلى الصدقِ والكرمِ والرحمةِ. فطوبى لِمَن سلكَ مَسلَكَ ابنِ المباركِ، ورأى في أمانةِ اللهِ ما يجلبُ له الفَرَجَ والرِّضا في الدنيا والآخرةِ.
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق