لَيْسَ كُلُّ مَا يُقَالُ يُفْعَلُ
في سالِفِ العَصْرِ والأَوَانِ، اجْتَمَعَتِ الفِئْرَانُ في مَشُورَةٍ عَامَّةٍ، وَقَدْ أَثْقَلَتْهَا هُمُومُ المَخَاوِفِ مِنْ عَدُوِّهَا المُشْتَرَكِ، الَّذِي يُلْقِي بِرُعْبِهِ في القُلُوبِ وَيَزْرَعُ الفَزَعَ في الجُحُورِ، أَلَا وَهُوَ القِطُّ.
تَبَايَنَتْ
آرَاءُ الفِئْرَانِ وَتَنَاقَضَتْ مُقْتَرَحَاتُهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ:
نَفْعَلُ هَذَا، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: نَفْعَلُ ذَاكَ، حَتَّى عَلَا صَوْتُ
فَأْرٍ صَغِيرٍ بَيْنَ الحُضُورِ وَقَالَ، وَفي نَبْرَتِهِ الحَمَاسَةُ
وَالثِّقَةُ: "أَيُّهَا الأَصْحَابُ، إِنَّ كَيْدَ هَذَا القِطِّ يَكْمُنُ في
مَكْرِهِ المُسْتَتِرِ، وَمُفَاجَآتِهِ المُتَكَرِّرَةِ، فَهُوَ لَا يَقْتَحِمُ
جُحُورَنَا بِالسَّيْفِ وَلَا يَغْزُو أَوْكَارَنَا بِالضَّجِيجِ، بَلْ
يَتَسَلَّلُ خِلْسَةً وَيَتَحَرَّكُ في الظُّلُمَاتِ بِخُطًى حَذِرَةٍ، حَتَّى
إِذَا مَا دَنَا مِنَّا، كَانَ الهَرَبُ بَعِيدَ المَنَالِ. وَلَكِنِّي رَأَيْتُ
حِيلَةً نَجْعَلُ بِهَا قُدُومَهُ مُعْلَنًا وَصَوْتَهُ مَكْشُوفًا، فَنَكُونُ
عَلَى حَذَرٍ دَائِمٍ مِنْهُ، وَهِيَ أَنْ نُعَلِّقَ في عُنُقِهِ جَرَسًا
صَغِيرًا، فَإِذَا تَحَرَّكَ سَمِعَتْ آذَانُنَا رَنِينَهُ قَبْلَ أَنْ تَقَعَ
أَنْيَابُهُ فِينَا، فَنَفِرُّ مَذْعُورِينَ إِلَى جُحُورِنَا في أَمَانٍ
وَسَلَامٍ."
وَمَا
أَنْ انْتَهَى الفَأْرُ مِنْ حَدِيثِهِ حَتَّى ضَجَّ المَجْلِسُ بِالتَّصْفِيقِ،
وَتَبَادَلَتِ الفِئْرَانُ نَظَرَاتِ الإِعْجَابِ وَالرِّضَا، فَصَاحَ الجَمِيعُ:
"نَعَمَ الرَّأْيُ وَأَحْسَنَ التَّدْبِيرَ!" وَلَكِنْ، وَقَبْلَ أَنْ
تَعْلُوَ أَصْوَاتُهُمْ بِالاحْتِفَاءِ، قَامَ بَيْنَهُمْ فَأْرٌ عَجُوزٌ، حَكِيمُ
التَّجَارِبِ وَوَاسِعُ البَصِيرَةِ، وَقَدْ شَابَتْ لِحْيَتُهُ مِنْ كَثْرَةِ مَا
عَاشَ وَرَأَى، وَقَالَ بِصَوْتٍ جَهُورِيٍّ نَافِذٍ: "حَسَنٌ مَا
اقْتَرَحْتَ يَا بُنَيَّ، وَرَائِعٌ مَا أَبْدَعْتَ مِنْ حِيلَةٍ. وَلَكِنْ، مَنْ
ذَا الَّذِي سَيَتَجَرَّأُ وَيُعَلِّقُ هَذَا الجَرَسَ في عُنُقِ القِطِّ؟ وَمَنْ
يَجْرُؤُ عَلَى الاقْتِرَابِ مِنْ مِخْلَبِهِ المَسْنُونِ وَنَابِهِ المَلْعُونِ؟!"
عِنْدَئِذٍ،
عَمَّ الصَّمْتُ وَسَادَ الذُّهُولُ، وَتَبَادَلَتِ الفِئْرَانُ نَظَرَاتٍ
مَلِيئَةً بِالحَيْرَةِ وَالخَوْفِ. فَقَدْ كَانَ الاقْتِرَاحُ جَمِيلًا في
ظَاهِرِهِ، لَكِنَّ تَنْفِيذَهُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يَجْرُؤَ عَلَيْهِ أَحَدٌ.
وَهُنَا قَالَ الفَأْرُ العَجُوزُ، وَقَدْ عَلَتْ قَسَمَاتِ وَجْهِهِ ابْتِسَامَةٌ
سَاخِرَةٌ: "مَا أَسْهَلَ أَنْ يَقْتَرِحَ المَرْءُ حُلُولًا صَعْبَةَ
المَنَالِ، وَمَا أَيْسَرَ عَلَى العَقْلِ أَنْ يُسْرِفَ في الأَمَانِي وَهُوَ
بَعِيدٌ عَنِ الخَطَرِ!"
فَانْكفَأَ
القَوْمُ خَائِبِينَ، وَتَبَدَّدَتْ حَمَاسَتُهُمْ، وَعَادَ كُلٌّ إِلَى جُحْرِهِ
يَتَحَسَّسُ مَوَاطِنَ الأَمَانِ، وَعَلِمُوا أَنَّ الفِكْرَةَ، وَإِنْ عَظُمَتْ،
لَا تُغْنِي عَنِ الفِعْلِ شَيْئًا، وَأَنَّ مِنَ الحِكْمَةِ النَّظَرَ في
العَوَاقِبِ قَبْلَ التَّسَرُّعِ بِالاقْتِرَاحَاتِ، فَلَيْسَ كُلُّ مَا يُفَكَّرُ
فِيهِ يُنَفَّذُ، وَلَيْسَ كُلُّ مَا يُقَالُ يُفْعَلُ.
إقرأ أيضاً:
قصة وحكمة: الحمار في جلد الأسد
قصة وحكمة الجرّة النحاسية والجرّة الخزفية
قصة وحكمة: هنري الثامن وكاترين
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق