عاقِبَةُ العَبَثِ بما لا تُدرك
كلا.. لا أريدُ أنْ تفهموني بشكلٍ خاطئٍ، أُقسِمُ أنني لستُ مذنباً، كلُّ ما في الأمر أنني خائفٌ ومرعوبٌ، من حقِّ كلِّ إنسانٍ أن يشعرَ بالخوفِ ولو قليلاً، آه... لقد نسيتُ أنكم لا تعرفونَ ما الحكاية، حسناً سوف أُشرككم معي وأقصها عليكم من البدايةِ.
بدأ
ذلك عندما دخلَ عليَّ صديقي (طارقٌ) وهو يلهثُ، كان يمسكُ في يدهِ كتاباً ضخماً
قديماً، وهتف بي:
لقد
وجدتهُ أخيراً.
وألقى
بالكتابِ أمامي، فانبعثتْ منه سحابةٌ من الغبارِ، مددتُ يدي وفتحتُ صفحاتهِ في
دهشةٍ، كانت أوراقه صفراءَ وقديمةً، تكاد تذوبُ وهي تلامسُ أصابعي، ورغم ذلك كانت
الكلماتُ المكتوبةُ فيها واضحةً، الحروفُ العربيةُ مكتوبةً بحبرٍ أحمرَ مائلٍ
للزرقةِ، وكانت رائحتُه مليئةً بالعطنِ مختلطةً برائحةِ عطرٍ قديمٍ، رفعتُ رأسي
وأنا أقولُ لطارقٍ:
ما
هذا؟ هل هو مخطوطٌ نادرٌ؟
قال
في حماسٍ: بل هو أكثرُ من ذلكَ، إنهُ كتابٌ في السحرِ القديمِ، يحتوي على تعويذةٍ
خطيرةٍ.
قلَّبتُ
الكتابَ مرةً أخرى، لم أعد أستطيعُ أن أشاركهُ حماسَه، قلتُ:
هل
تؤمنُ بهذه الأشياءِ؟ أنا لا أؤمنُ بها.
سوف
تؤمنُ بها حينَ تمارسها، لقد كان جدُّ جدي يمتلكُ هذا الكتابَ، وقد خبأه في مكانٍ
خفيٍّ قبل أن يموتَ، وظلت أسرتي تبحثُ عنهُ طويلاً حتى جاءَ الوقتُ واكتشفتهُ أنا.
مرةً
أخرى أعودُ لتقليبِ صفحاتِ الكتابِ، أحاولُ أن أقرأَ فلا أفهمُ شيئاً، حتى الرسومُ
البدائيةُ الموجودةُ فيهِ لا أفهمُ منها شيئاً، يدركُ طارقٌ حيرتي فيقولُ لي:
لا
تُتعبْ نفسكَ، أنا الوحيدُ الذي يعرفُ أنَّ هذا الكتابَ يدورُ حول تحويلِ الإنسانِ
إلى مخلوقاتٍ أخرى.
قلتُ:
هذه خرافاتٌ بطبيعةِ الحالِ، لا نجدُها إلا في كتابِ ألفِ ليلةٍ وليلةٍ.
قال
متحمّساً: بل إنها حقيقةٌ وسوفَ أثبتُ لكَ ذلكَ، سوفَ أقومُ بإجراءِ التجربةِ على
نفسي.
هكذا
بدأَ الأمرُ، صديقي طارقٌ، هو الذي قلبَ صفحاتِ الكتابِ وأخذَ يشرحُ لي مغزى كلِّ
تعويذةٍ من التعاويذِ، أشياءٌ كفيلةٌ بإطلاقِ كلِّ القوى البدائيةِ الكامنةِ في
نفسِ الإنسانِ، فهو يحملُ في جسدهِ ملخصاً لكلِّ العصورِ، من أيامِ الغابةِ حتى
العصرِ الذي نعيشُ فيهِ، وما تفعلهُ التعاويذُ هي أنها تساعدُ الجسمَ على استعادةِ
هذه الذاكرةِ القديمةِ، وهذا هو كلُّ ما يريدهُ، وهو أن يتحولَ إلى مخلوقٍ آخرَ
أكثرَ قوةً وحيويةً. كنتُ لا أزالُ متشككاً، قلتُ له:
وإلى
أي شيءٍ تريدُ أن تتحولَ؟
قال
على الفورِ: أريدُ أن أصبحَ أسداً.
وأخذ
يقلبُ في صفحاتِ الكتابِ حتى وصلَ إلى الصفحةِ التي يريدها وبدأ يقرأها عليَّ،
كانت تعويذةً طويلةً تخاطبُ كلَّ قوى الطبيعةِ وتدعوها للنهوضِ، ولكنَّ الأمرَ لم
يكن مجردَ قراءةِ تعويذةٍ، بل إنها يجبُ أن تُقرأ في منتصفِ ليلةٍ معينةٍ يكونُ
ضوءُ القمرِ فيها مكتملاً، قلتُ له:
ومن
الذي سيقومُ بكلِّ هذا؟
قال
دونَ ترددٍ: أنتَ، وسوفَ نقومُ بهذا الأمرِ الليلةَ لأنَّه الآنَ في تمامِ كمالِه.
لم
أصدِّقْ ذلكَ بالطبعِ، ولكنَّ اللعبةَ استهوتني، قلتُ وأنا أُجاريهِ في الكلامِ:
ولكن
ماذا لو لم ترتحْ لكونكَ أسداً، ماذا لو أردتَ أن تعودَ إلى حالتكَ الطبيعيةِ؟
قال
ببساطةٍ: لا مشكلةَ، هناكَ تعويذةٌ مضادةٌ، يكفي أن تقفَ أمامي وتقولها في منتصفِ
الليلِ أيضاً حتى أتحوّلَ إلى إنسانٍ مرةً أخرى، هل هناكَ ما هو أبسطُ من ذلك؟
هكذا
تمتْ المسألةُ، كلما أثرتُ اعتراضاً، سارعَ بالردِّ عليهِ بحيثُ لم يتركْ لي أيَّ
فرصةٍ للتراجعِ، خرجتُ معهُ في منتصفِ الليلِ فقط من بابِ الفضولِ، سرنا معاً إلى
مكانٍ خالٍ خارجَ المدينةِ تحيطُ به الأشجارُ من كلِّ جانبٍ حتى لا يرانا أحدٌ،
جمعنا كومةً من الحطبِ وأشعلنا فيها النيرانَ، وعلى الأرضِ رسمنا دائرةً بالطباشيرِ
كان من المفروضِ أن يقفَ (طارقٌ) في وسطها، وأن أقفَ أنا أمامهُ حاملاً المخطوطَ
القديمَ، وعلى ضوءِ النيرانِ المتصاعدةِ، بدأتُ أقلبُ في صفحاتِ الكتابِ حتى وصلتُ
إلى تعويذةِ الأسدِ، قبلَ أن أقرأَ الأسطرَ تطلعتُ إلى طارقٍ، كان يقفُ في وسطِ
الدائرةِ والنيرانِ المشتعلةُ تُلقي بالظلالِ المتراقصةِ على وجههِ، والقمرُ يطلُّ
من خلفِ رأسهِ تامَّ الاستدارةِ، والريحُ تُصدرُ صوتاً مخيفاً كلما هبّتْ من وسطِ
الشجرِ، شعرتُ بالخوفِ، ربما كانت هناكَ لمحةٌ من الحقيقةِ في كلِّ ما يُقالُ،
ويمكنُ أن تتحولَ هذهِ اللعبةُ في لحظةٍ إلى كابوسٍ، وقفتُ متردداً، ولكنَّ طارقاً
صرخَ فيَّ قائلاً:
هيا،
اقرأِ التعويذةَ.
توسلتُ
إليه قائلاً: ألا يمكنُ أن نؤجلَ ذلكَ إلى ليلةٍ أخرى؟
هتفَ
من بينِ أسنانهِ: في الليلةِ القادمةِ لن يكونَ القمرُ بهذا الكمالِ، وسوفَ تضيعُ
الفرصةُ علينا لمدةِ شهرٍ كاملٍ، هيا اقرأِ التعويذةَ وإلا انتهتْ صداقتنا الليلةَ.
ماذا
كنتُ أفعلُ أمامَ كلِّ هذا الإصرارِ والتهديدِ، أخذتُ أقلبُ في الصفحاتِ الصفراءِ
وأنا أُوشكُ أن أمزّقها من فرطِ توتري، ثمَّ رأيتُ صورةَ الأسدِ وهي مرسومةٌ
بخطوطٍ بدائيةٍ غيرِ واضحةٍ، وبجانبهِ كانت هناكَ سطورٌ عدةٌ، هل أجازفُ وأقرأها؟
أليسَ الأمرُ مجردَ مزحةٍ؟ وهل يمكنُ أن تتحولَ المزحةُ إلى كابوسٍ؟ نظرتُ إلى
وجهِ صديقي فعادَ يدمدمُ: ابدأ القراءةَ.
أخذتُ
أقرأ، كلمةً وراء كلمةٍ، سطراً وراءَ سطرٍ، وفي كلِّ فترةٍ آخذُ نفساً عميقاً
وأتطلعُ إليهِ فأراهُ واقفاً يُحدّقُ فيَّ بنظراتهِ التي أصبحتُ أخافُ منها
فأخفضتُ عيني وواصلتُ القراءةَ، سمعتُ أصواتاً غريبةً، بدا كأنَّ طارقاً يأخذُ
أنفاسهُ في صعوبةٍ بالغةٍ، ثمَّ تغيَّرَ الصوتُ، أصبحَ أكثرَ حشرجةً وأكثرَ
ارتفاعاً، لم يعد باقياً من التعويذةِ غيرُ كلماتٍ قلائل، ولم أجرؤْ على رفعِ عيني
قبلَ أن أتمها وأنا أكتمُ أنفاسي.
انتهيتُ
من التعويذةِ ورفعتُ رأسي، يا إلهي، ما هذا الذي يقفُ أمامي؟ من ذا الذي يُحدّقُ
فيَّ بتلكَ العينِ النافذةِ وقد كشّرَ عن أنيابِه، لم يكن صديقي طارقاً، ولكنه
أسدٌ ضارٍ، أسدٌ تسلَّلَ من إحدى الغاباتِ، جائعٌ ومتربصٌ وبريٌّ، يُخربشُ
بأظفارهِ في الأرضِ متحفّزاً حتى يقفزَ عليَّ، صرختُ في فزعٍ ثمَّ بدأتُ أعدو،
وبدأَ الأسدُ يعدو خلفي، كنتُ أسمعُ زئيرهُ الغاضبَ، لا يمكنُ أن يكونَ هذا صديقي
(طارقاً)، لابدَّ أن طارقاً قد اختفى في مكانٍ ما وجاءَ هذا الأسدُ من مكانٍ ما،
لا يمكنُ أن يكونا مخلوقاً واحداً، دخلتُ السيارةَ وأغلقتُ البابَ خلفي بسرعةٍ،
وجلستُ وأنا أرتجفُ، من المؤكدِ أنَّ الأسدَ لن يستطيعَ دخولَ السيارةِ، وسوفَ
يظلُّ يدورُ حولها كما يفعلُ الآنَ، استرددتُ أنفاسي قليلاً وبدأتُ أتأملُه، ربما
كانَ هذا صديقي طارقاً بالفعلِ، وربما لم يكن يريدُ أن يفترسَني، ربما كانَ يريدُ
أن يفهمني شيئاً، يريدني أن أقرأَ التعويذةَ التي تُعيدهُ إلى هيئتهِ الآدميةِ
مرةً أخرى، ولكن كيفَ أستطيعُ أن أقفَ في مواجهتهِ وأن أقرأَ التعويذةَ مطمئناً
أنَّهُ لن ينتهزَ الفرصةَ ويقفزَ عليَّ ليلتهمَني؟
عشراتُ
الأسئلةِ بلا جوابٍ، أتركهُ وأعودُ إلى بيتي، ولكنني لا أستطيعُ النومَ، أفكرُ
طوالَ الليلِ في صديقي الأسدِ الموجودِ في العراءِ. أذهبُ إليهِ منذُ الصباحِ
الباكرِ، ولكنني لا أجدهُ، من المؤكدِ أنَّهُ مختبئٌ في مكانٍ ما ينتظرُ قدومَ
الليلِ، لم يكن هناكَ مفرٌّ أمامي من أن أنتظرَهُ وأنا أرددُ في ذهني التعويذةَ
التي سوفَ تُعيدهُ مرةً أخرى، وكانَ الليلُ بارداً، وفكرتُ في الانصرافِ ولكن حينَ
رفعتُ عيني وجدتُ الأسدَ أمامي، يا إلهي في وسطِ هذا الليلِ والفراغِ، أجدني وحدي
مرةً أخرى في مواجهتهِ، في مواجهةِ أنيابهِ وعينيهِ الشرستينِ، مرةً أخرى دبَّ
الهلعُ في نفسي، نسيتُ التعويذةَ وأسرعتُ بالهربِ وهو يزأرُ في غضبٍ ويحاولُ
اللحاقَ بي.
كلَّ
يومٍ يحدثُ الشيءَ نفسهُ، كلَّ مرةٍ أرى فيها عينيهِ وأنيابَهُ ينزرعُ الخوفُ في
أعماقي، لا أدري ماذا أفعلُ، كانَ كلُّ ما آملهُ أن يأتي يوماً ما وأنْ أتمالكَ
شجاعتي وأتلوَ عليهِ التعويذةَ لعلهُ يعودُ إلى حالتهِ الطبيعيةِ.
إقرأ أيضاً:
قصة وحكمة: الحمار في جلد الأسد
قصة وحكمة الجرّة النحاسية والجرّة الخزفية
قصة وحكمة: هنري الثامن وكاترين
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
المصدر: 1
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق