السبت، 11 مايو 2013

• قصة نجاح: المعلم الذي استحق جائزة نوبل



  كُلف الأستاذ الجديد بتدريس مادة القرآن الكريم للصف الثالث الابتدائي قبل نهاية الفصل الدراسي الأول بشهر واحد، ومنذ أول لقاء له مع الطلاب، طلب من كل تلميذ أن يقرأ، حتى يعرف مستوى كل منهم، ليضع خطته حسب مستوى الطلاب، فلما وصل الدور إلى أحد التلاميذ وكان قابعًا في آخر زاوية في الصف، قال له إقرأ...

  هتف الجميع بصوت واحد (ما بيعرف، ما بيعرف يا أستاذ)، فآلمه الكلام، وأوجعه منظر الطفل البريء الذي احمّر وجهه، وأخذ العرق يتصبب منه. دق الجرس وخرج التلاميذ للفرصة، وبقي المدرس مع هذا الطفل الذي حزن لأجله، وتكلم معه، يناقشه، لعله يساعده، فاتضح له أنه محبط، وغير واثق من قدراته، حتى هانت عليه نفسه، لأنه يرى أن جميع التلاميذ أحسن منه، وأنه لا يستطيع أن يقرأ مثلهم.
   ذهب المعلم على الفور، وطلب ملف هذا الطفل، ليدرس حالته الأسرية، فوجده من أسرة ميسورة، ويعيش مع أمه وأبيه وإخوته في بيت عامر وبيئة مستقرة. وبعد متابعته استنتج أن الدمار النفسي الذي يسيطر على الطالب ليس من البيت والأسرة، بل إنه من المدرسة. ويرجع السبب حتمًا إلى موقف محرج تعرّض له من معلم، أو أن زميلاً صدّه بعنف، أو تهكّم على إجابته، أو سخر من قراءته، شعر بعدها التلميذ بهوان النفس والإحباط، ثم أخذت المواقف المحرجة والإحباطات تتراكم عليه من المعلمين والزملاء، حتى وصل إلى هذا الحد من التقوقع.
   فكّر المعلم جديًا في انتشال هذا الطفل مما هو فيه، خاصة أنه بحكم عمله في الإرشاد، وبحكم خبرته مع الأطفال، يعرف أن الطالب الذكي قد يكون حساسًا، ومرهف المشاعر ويخشى المواجهة ويفضل الانسحاب خشية الخسارة.
  وبدأت خطة المدرس، بأن غيّر مكان جلوس الطفل، وأجلسه أمامه في الصف الأول، وقرر أن يعطي هذا التلميذ تميزًا يتفرد فيه ليتحدى الجميع ويستعيد ثقته بنفسه، ويشعر بقيمته وإنسانيته بين زملائه. وحين خرج الطلاب وقت الفرصة، بقي المعلم مع التلميذ في الصف، وكتب له جملة صعبة النطق، ووضع الحركات على الأحرف، وأفهمه معاني كلماتها، وقرأها على مسمع الطالب مرارًا حتى حفظها، وقال له حاول حفظها غيبًا، ولا تدع أحدًا من زملائك أو أسرتك يطّلع عليها.
  وكان المعلم قد عوّد تلاميذه على أن يروي لهم قصة في نهاية كل حصة شريطة أن يؤدوا كل ما يكلفهم به من حفظ وواجبات، وإذا تعثر بعضهم أو أحدهم في الحفظ أو الواجب حجب عنهم القصة، حتى يساعدوا زميلهم المتعثر في حفظه، أو واجبه، وقد يعاتبونه لأنه ضيَّع عليهم القصة.
  بعدها التزم الجميع بواجبات المعلم لهم، حفاظًا على رضاه، وتشوقًا إلى استمرار القصة.
  وفي أحد الأيام، وبعد أن قام الجميع بالتسميع طلبوا منه إكمال قصة الأمس، فقال لهم: إلى أين وصلنا فيها؟ قالوا: وصلنا عند السيدة حليمة السعدية مرضعة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في ديار بني سعد، ماذا حدث بعد ذلك؟ فقال لهم: لن أكملها لكم اليوم، فتساءلوا جميعًا: لماذا يا أستاذ؟ كلنا أدّينا التسميع والواجبات!
  قال لهم: عندي قصة جديدة، أرويها لكم اليوم فقط، وغدًا نعود لإكمال قصة الرسول محمد -صلى الله عليه وسلم- قالوا وما هي؟ فسرد عليهم قصة من خياله، من أجل أن يُدخل فيها الجملة الصعبة التي حفظها ذلك الطالب وفهمها سلفًا، وقال لهم: إن هناك جماعة يسكنون قرية واحدة يقال لهم (القراقبة)، كانوا يحتفلون بعيد الأضحى، ويذبحون فيه البقر ويتفاخرون بذبائحهم، حتى أن كل واحد منهم يربي بقرته من شهر الحج إلى شهر الحج سنة كاملة، يغذيها بأجود الأعلاف، حتى تكون سمينة، وكان عند (علي القرقبي) بقرة يربطها أمام باب بيته في القرية، وكانت أكبر وأسمن بقرة في القرية كلها، وجميعهم يتمنون أن يأتي الحج، وتذبح هذه البقرة، ليشربوا من مرقها، ويأكلوا من لحمها.
  وكان أهل القرية إذا ذبحوا الأضاحي يطبخون رقابها، ويضعون المرق في أوانٍ، تجمع في المكان الذي يتعايدون فيه، ولما حان الموعد دخل الشباب وأخذوا يتذوقون المرق من كل إناء، فصاح أحدهم مفتخرًا بذكائه: عرفتها، عرفتها، فقالوا له: ماذا عرفت؟ قال: (أنا عرفت مرقة رقبة بقرة علي القرقبي من بين مِراق رقاب بقرات القراقبة)...
  وبعد هذه العبارة قال لتلاميذه: من الذكي الذي يستطيع أن يعيد هذه العبارة، فتفاجأوا جميعًا، وطلبوا منه إعادتها، فأعادها لهم، وقال: من الذكي الذي يعيدها؟ فحاول رواد الصف، والذين يشعرون في أنفسهم بالتميز، فلم يستطيعوا إعادة حتى ثلاث كلمات منها، فقال لهم: هذه لا يستطيع أن يقولها إلا ذكي فهم معناها، أين الذكي فيكم يقولها أمام زملائه؟ وكان المعلم ينظر إلى هذا التلميذ، فإذا نظر إليه يخفض يده؛ لأنه يخشى الإخفاق، فثقته بنفسه معدومة، خاصة أنه رأى فلانًا وفلانًا من الذين يشار إليهم بالبنان يتعثرون، وأين هو من هؤلاء الذين أخفقوا؟ وإذا أعرض عنه لمح أنه يرفع إصبعه عاليًا.
  وبعد أن عجز الجميع طلب من هذا الصبي أن يقول الجملة وهو جالس في مكانه، وذلك لخوفه عليه إذا خرج ونظر إلى التلاميذ أن يصيبه البكم الاختياري، من شدة خجله وحساسيته، فما كان من التلميذ إلا أن قالها بطلاقة وسلاسة، فصفق له المعلم، وإذا به الوحيد المصفق، وكأن التلاميذ لم يصدقوه، لأنه قالها بصوت خافت، علاوة على أن التلاميذ لم يلقوا له بالاً، فطلب منه إعادتها مرة ثانية، ولكن أمَرَه بالوقوف في مكانه، مع رفع الصوت، وابتسم المعلم في وجهه، فقام وأعاد الجملة، ورفع صوته، فصفق الجميع، فقال التلاميذ: قالها يا أستاذ! قال المعلم نعم، لأنه ذكي.
  ولما تبين للمعلم أن التلميذ وثق من نفسه قال له: أخرج أمام اللوح، وقلها مرة أخرى، وأخذ يشحذ همته ويشجعه بقوله، أنت الذكي، أنت البطل، فخرج وقالها والجميع منصتون، ويستمعون في ذهول.
  ثم طلب التلاميذ من المعلم أن يأمره بإعادتها لهم.. فرفض طلبهم، وقال لهم: اطلبوا أنتم منه.
  وكان هدف المعلم من ذلك أن يُشعرهم أنه أحسن منهم، وأنه ذكي، وأنه مهم بينهم، وأن الفهم الذي عنده ليس عند غيره، وأن التلعثم وتقطيع الكلام الذي كان يصيبه أصاب جميع زملائه في هذا الموقف.
  فطلب الطلاب منه الإعادة مرة أخرى، فقال لهم المعلم تابعوه وهو يعيد لكم كي تحفوظها، وذلك حتى يُشعره بالقيادة ولكي تزداد ثقتة بنفسه.
  ولما دق جرس انتهاء الحصة، وجاء وقت النزول إلى ملعب المدرسة، لم يخرجوا من الصف إلا بهذا الطالب معهم، وأخذوا ينادونه باسمه، وكوّنوا كوكبة تمشي وهو يمشي بينهم كأنه قائد، أو لاعب كرة يحمل الكأس، والفريق من حوله، فخرج المعلم خلفهم، وشاهد التلاميذ ينادون إخوانهم وأصدقاءهم في الصفوف العليا، ويجتمعون حول هذا الطالب النجيب وهو يعيد لهم الجملة المستعصية، وهم يرددون خلفه، وهو يصحح لهم، وكثر أصدقاء هذا الولد وجلساؤه بعد أن كان نسيًا منسيًا، ووثق بنفسه، وفي هذا اليوم نفسه طلب منه المعلم أن يعرض هذه الجملة على أبيه وأمه، وإخوته، وجميع معارفه، وأن يتحداهم بإعادتها، وما هو إلا أسبوع واحد حتى جاءت إجازة نصف العام.
  وبعد الإجازة جاء والده إلى المدرسة، ولأول مرة قابله المعلم، فقال: جزاك الله خيرًا يا أستاذ، بارك الله لك في أولادك، جزاء ما فعلت مع ولدي، ثم أضاف : لقد سألني الأقارب الذين زارونا في الإجازة: "من هو الطبيب الذي عالجت عنده ولدك، إذْ كنا نعرفه يتهته في كلامه، خجولاً منطويًا على نفسه، والآن تحدى الكبار والصغار رجالاً ونساءً، وتحداهم بإعادة جملة صعبة، عجزنا نحن أن نرددها بعده"، فقلت لهم إنه معلمه، جزاه الله خيرًا.
  واستمرت علاقة المعلم بالأب بعد ذلك، وأخذ يخبره عن ولده، وأنه انطلق بعد هذه القصة العلاجية وحقق ما لم يكن متوقعاً أبدًا:
  حفظ القرآن الكريم كاملاً، وأصبح عضوًا فاعلاً في الأنشطة الجماعية والرحلات، وتخرج في الثانوية العامة القسم العلمي بامتياز، حيث حقق 96% في المجموع الكلي للدرجات، ثم التحق بالجامعة (في السعودية) قسم الرياضيات، وفي كل سنة دراسية كان ينال الكثير من شهادات الشكر والثناء والتميز، حتى أنه تخرج بامتياز مع مرتبة شرف. وعُيِّن معيداً في إحدى الكليات بالجامعة.. ثم حصل على قبول للدراسات العليا في واحدة من أعرق الجامعات العالمية، ولا يزال المستقبل الواعد ينتظره بالكثير، خاصة أنه ذاق حلاوة تميزه.

إقرأ أيضًا









هناك تعليقان (2):