شَهامَةٌ
كانَ يا ما كان، في سالِفِ العَصْرِ والأوان، خالِدُ بنُ عَبدِ اللهِ القَسْرِيُّ، أَمِيرُ البَصْرَةِ وزِمامُها المَكِين، يَأْمُرُ ويَنْهَى، ويَنْظُرُ في أُمُورِ رَعِيَّتِهِ بِعَينِ الرَّقِيبِ الأَمِين. وفي يَومٍ مِنَ الأَيَّامِ، أُتِيَ إِلَيْهِ بِجَمَاعَةٍ مِنَ القَوْمِ، قدِ اعتَقَلُوا شَابًّا فَائِقَ الحُسْنِ وَالبَهَاءِ، ذُو وَجهٍ يُضِيءُ كَالقَمَرِ لَيلَةَ التَّمَام، تُزَيِّنُهُ سَكِينَةٌ وَوَقَار، وتَفُوحُ مِنهُ رَوَائِحُ الطِّيبِ وَالبَخُور، ويُخَيَّلُ لِمَن يَرَاهُ أنَّهُ مِن أَهلِ النَّعِيمِ وَالسُّرُور. قَدَّمُوهُ إِلَى خَالِدٍ وَهُم يَزعُمُونَ أنَّهُ لِصٌّ أَمسَكُوهُ مُتَلَبِّسًا بِالجُرمِ المَشْهُود، فَوَقَفَ الشَّابُّ بَينَ يَدَيِ الأَمِير، وظَهَرَ عَلَيهِ مِن عَلَامَاتِ الأَدَبِ وَحُسْنِ الهَيئَةِ مَا جَعَلَ خَالِدًا يَتَأَمَّلُ فِيهِ مَلِيًّا.
ثُمَّ أَمَرَ خَالِدٌ
بِإخلَاءِ سَبِيلِهِ، وَاقتَرَبَ مِنهُ وَقَال: "يَا فَتَى، مَا الَّذِي
دَفَعَكَ إِلَى السَّرِقَةِ وَأَنتَ عَلَى هَذِهِ الصُّورَةِ مِنَ الجَمَالِ
وَالعَقلِ الرَّاجِح؟ أَلَا يَكفِيكَ كَمَالُ هَيئَتِكَ وَزِينَتِكَ لِتَردَعَكَ
عَن هَذَا الفِعلِ المُشِين؟"
أَجَابَ الشَّابُّ
بِصَوتٍ وَاثِق، قَائِلًا: "أَيُّهَا الأَمِير، الأَمرُ كَمَا ذَكَرُوا،
وَأَنَا السَّارِقُ الَّذِي أَتَوا بِهِ إِلَيكَ."
تَعَجَّبَ خَالِدٌ مِن
إِقرَارِهِ، وَقَالَ لَه: "وَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ يَا فَتَى؟"
أَجَابَ الشَّاب:
"الأَمرُ قَد قُضِيَ بِمَا كَتَبَهُ اللهُ عَلَيَّ، وَمَا أَصَابَنِي إِلَّا
بِمَا كَسَبَت يَدَايَ."
ظَلَّ خَالِدٌ
مُتَأمِّلًا في أَمرِهِ، ثُمَّ قَالَ لَه: "إِنِّي أَرَى فِيكَ مِنَ
السَّكِينَةِ وَالوَقَارِ مَا يَجعَلُنِي أَشكُّ فِي أَنَّكَ لِصٌّ، فَأَخبِرنِي
بِقِصَّتِكَ."
وَلَكِنَّ الشَّابَّ
أَصَرَّ عَلَى مَوقِفِهِ، قَائِلًا: "لَيسَ لِي قِصَّةٌ سِوَى مَا ذَكَرتُ،
دَخَلتُ دَارَ القَومِ وَسَرَقتُ مَا استَطَعتُ، فَأَمسَكُوا بِي وَحَمَلُونِي
إِلَيكَ."
فَأَمَرَ خَالِدٌ
بِحَبسِهِ، وَأَمَرَ المُنَادِي أَن يُنَادِي فِي أَرجَاءِ البَصرَةِ لِيَشهَدَ
النَّاسُ قَطعَ يَدِ السَّارِقِ فِي اليَومِ التَّالِي. وَفِي تِلكَ اللَّيلَة،
جَلَسَ الشَّابُّ فِي مَحبَسِهِ، وَقَدِ اشتَدَّت بِهِ الأَحزَانُ وَالهُمُوم،
وَأَرسَلَ دُمُوعَهُ مُتَدَفِّقَةً، ثُمَّ أَنشَدَ بِصَوتٍ مَلِيءٍ بِالشَّجن:
"هَدَّدَنِي
خَالِدٌ بِقَطعِ يَدِي إِن لَم أَبُحْ
عِندَهُ بِقَصَّتِهَا
فَقُلتُ: هَيهَاتَ أَن أَبُوحَ بِمَا تَضَمَّنَ القَلبُ مِن مَحَبَّتِهَا!
قَطْعُ يَدِي بِالَّذِي اعتَرَفتُ بِهِ أَهوَنُ لِلقَلبِ مِن فَضِيحَتِهَا"
سَمِعَ الحَرَسُ مَا
قَالَهُ الشَّابُّ وَأَسرَعُوا بِإخبَارِ خَالِد، الَّذِي أَمَرَ بِإحضَارِهِ فِي
الحَال. تَحَدَّثَ خَالِدٌ مَعَ الشَّابِّ سَاعَةً، فَوَجَدَهُ أَدِيبًا،
ذَكِيًّا، صَاحِبَ عَقلٍ رَاجِحٍ وَلِسَانٍ فَصِيح. فَلَمَّا رَأَى خَالِدٌ مِنَ
الشَّابِّ مَا أَثَارَ إِعجَابَهُ، قَالَ لَه: "إِذَا حَضَرَ القَاضِي غَدًا
وَسَأَلَكَ عَنِ السَّرِقَةِ، فَأنكِر، وَاذكُر مَا يُمكِنُ أَن يَدرَأَ عَنكَ
الحَدَّ، فَقَد قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ:
"ادرَءُوا الحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ". ثُمَّ أَمَرَ بِإعَادَتِهِ إِلَى
السِّجن.
وَعِندَ بُزُوغِ الفَجر،
اجتَمَعَ النَّاسُ مِن كُلِّ صَوبٍ وَحَدب، لِيَشهَدُوا قَطعَ يَدِ الشَّابِّ.
وَحَضَرَ القُضَاة، وَأَمَرَ خَالِدٌ بِإحضَارِ الفَتَى. جَاءَ الفَتَى مُقَيَّدًا
بِالسَّلَاسِل، وَقَد أَثَارَ مَظهَرُهُ الشَّفَقَةَ فِي قُلُوبِ الحَاضِرِينَ، فَارتَفَعَت
أَصوَاتُ النِّسَاءِ بِالبُكَاءِ وَالنَّحِيب. أَمَرَ القَاضِي بِإِسكَاتِهِنَّ،
ثُمَّ سَأَلَ الشَّاب: "هَل سَرَقتَ نِصَابًا كَامِلًا؟" فَأَجَابَ
الشَّابُّ بِثَبَات: "نَعَم، سَرَقتُ نِصَابًا كَامِلًا." فَسَأَلَهُ
القَاضِي مُجَدَّدًا: "هَل لَكَ شَرَاكَةٌ فِي المَالِ المَسْرُوق؟"
فَأَجَابَ الشَّاب: "لَا، المَالُ كُلُّهُ لِلقَوم."
غَضِبَ خَالِدٌ مِن
إصرَارِ الشَّابِّ عَلَى اعتِرَافِهِ، وَقَامَ بِنَفسِهِ وَضَرَبَهُ بِالسَّوطِ
قَائِلًا:
"يُرِيدُ المَرْءُ أَن يُعْطَى
مُنَاهُ وَيَأبَى اللهُ إِلَّا مَا
يُرِيدُ"
ثُمَّ استَدعَى
الجَزَّارَ لِيَقطَعَ يَدَ الشَّابِّ، وَلَكِن قَبلَ أَن يُنفَّذَ الحُكم،
اندَفَعَت جَارِيَةٌ مِن وَسَطِ الحَشد، عَلَيهَا أَطمَارٌ وَسِخَة، وَصَرَخَت
بِصَوتٍ هَزَّ القُلُوبَ وَرَمَت نَفسَهَا عَلَى الشَّابِّ، وَأَسفَرَت عَن وَجهٍ
كَأَنَّهُ البَدرُ فِي لَيلَةِ تَمَامِهِ. عَلَتِ الضَّجَّةُ بَينَ النَّاسِ
وَكَادَت أَن تَندَلِعَ الفِتنَة. نَادَتِ الجَارِيَةُ بِأَعلَى صَوتِهَا:
"نَاشَدتُكَ اللهَ يَا أَمِير، لَا تُعَجِّل بِالقَطعِ حَتَّى تَقرَأَ هَذِهِ
الرُّقعَة." ثُمَّ دَفَعَت إِلَى خَالِدٍ بِرُقعَةٍ، فَفَتَحَهَا وَقَرَأَ
الأَبيَاتَ التَّالِيَة:
"أَخَالِدُ
هَذَا مُستَهَامٌ مُتَيَّم رَمَتهُ
لِحَاظِي عَن قُسِّي الحَمَالِق
فَأَصْمَاهُ سَهمُ اللَّحْظِ مِنِّي لِأَنَّهُ حَلِيفُ جَوًى مِن دَائِهِ غَيرُ فَائِق
أَقرَّ بِمَا لَم يَقتَرِفْهُ كَأَنَّهُ رَأَى ذَاكَ خَيرًا مِن هَتِيكَةِ عَاشِقِ
فَمَهلًا عَنِ الصَّبِّ الكَئِيبِ, فَإِنَّهُ كَرِيمُ السَّجَايَا فِي الوَرَى غَيرُ
سَارِقِ"
بَعدَمَا قَرَأَ خَالِدٌ
الأَبيَات، انفَرَدَ بِالجَارِيَةِ وَسَأَلَهَا عَن حَقِيقَةِ الأَمر، فَأَخبَرَتهُ
بِأَنَّ هَذَا الشَّابَّ عَاشِقٌ لَهَا وَهِيَ عَاشِقَةٌ لَه. أَرَادَ
زِيَارَتَهَا فَأَلقَى حَجَرًا عَلَى دَارِ أَهلِهَا لِيُعلِمَهَا بِمَجِيئِهِ،
وَلَكِن وَالِدَهَا وَإِخوَتُهَا سَمِعُوا الصَّوتَ وَصَعِدُوا إِلَيهِ. وَلَمَّا
أَحَسَّ بِهِم، جَمَعَ أَغرَاضَ البَيتِ لِيُوهِمَهُم بِأَنَّهُ سَارِقٌ حِمَايَةً
لِحَبِيبَتِهِ، فَأَمسَكُوهُ وَحَمَلُوهُ إِلَيكَ.
قَالَ خَالِد:
"هَذَا الشَّابُّ ذُو مَروءَةٍ عَالِيَةٍ يَستَحِقُّ أَن يُحَقَّقَ لَهُ
مُرَادُه." ثُمَّ استَدعَى الشَّابَّ وَقَبَّلَهُ بَينَ عَينَيهِ، وَأَمَرَ
بِإحضَارِ وَالِدِ الجَارِيَة. قَالَ لَه: "يَا شَيخ، كِدنَا أَن نَقطَعَ
يَدَ هَذَا الفَتَى، وَلَكِنَّ اللهَ قَد حَفِظَه. وَقَد أَمَرتُ لَهُ بِعَشرَةِ
آلَافِ دِرهَمٍ جَزَاءً عَلَى شَرَفِهِ وَحِفَاظِهِ عَلَى عِرضِكَ وَعِرضِ
ابنَتِكَ. وَأَمَرتُ لِابنَتِكَ بِعَشرَةِ آلَافِ دِرهَمٍ مُكَافَأَةً لَهَا.
أَرجُو أَن تَأذَنَ لِي بِتَزويجِهَا مِنه."
أَجَابَ الشَّيخ:
"يَا أَمِير، قَد أَذِنتُ لَكَ فِي ذَلِكَ!" فَحَمِدَ خَالِدٌ اللهَ
وَأَثنَى عَلَيهِ، وَخَطَبَ خُطبَةً مُبَارَكَة، وَزَوَّجَ الشَّابَّ
بِالجَارِيَة، وَعَاشَا بَعدَهَا فِي سَعَادَةٍ وَهَنَاء.
إقرأ أيضاً:
قصة للأطفال: فريدة وأصبعها العجيب
قصة للأطفال: الأمير والأميرة والثعبانان
قصة عجيبة: شاب فلسطيني إله يُعبد في الهند
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق