"دفء الكبريت: ليلة برد وأمل"
كانت
لَيْلَةً بَارِدَةً والصَّقِيعُ يَلُفُّ الأَرْجَاءَ، وكَانَتِ الفَتَاةُ ذَاتُ
الحَادِيَةَ عَشَرَ رَبِيعًا تَرْتَجِفُ بِشَكْلٍ دَائِمٍ.
أَثْوَابُهَا رَقِيقَةٌ وَقَدِيمَةٌ وَبِالكَادِ تَقِي جَسَدَهَا مِنْ قَسْوَةِ البَرْدِ، تَلْبَسُ بِقَدَمَيْهَا حِذَاءَ وَالِدِهَا القَدِيمَ وَالكَبِيرَ، الَّذِي هُوَ أَكْبَرُ مِنْ حَجْمِ قَدَمَيْهَا لِتَبْدُوَ فَرْدَتَا الحِذَاءِ كَأَنَّهُمَا قَارِبَانِ مَطَّاطِيَّانِ يَخُبّانِ فِي مَاءِ الشِّتَاءِ القَارِسِ.
إِنَّهَا
تَبِيعُ عُلَبَ الثُّقَابِ وَقَدْ أَعْيَاهَا التَّعَبُ فَلَمْ تُوَفَّقْ فِي
البَيْعِ الكَثِيرِ هَذَا اليَوْمِ، وَهَا قَدْ خَيَّمَ الظَّلَامُ وَهِيَ تَأْبَى
العَوْدَةَ إِلَى بَيْتِهَا قَبْلَ أَنْ تَبِيعَ عُلَبًا أُخَرَ تَكْفِي لِجَلْبِ
القَلِيلِ مِنَ القُرُوشِ عَلَّهَا تَكْفِي لِشِرَاءِ غِذَائِهَا لِهَذَا
المَسَاءِ، فَوَالِدُهَا حَمَّالُ أَمْتِعَةٍ يَجُوبُ الشَّوَارِعَ وَيُعَانِي
الأَمَرَّيْنِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ تَأْمِينِ بَعْضِ الغِذَاءِ لَهَا وَلأُمِّهَا
المُقْعَدَةِ.
تُنَادِي
عَلَى بِضَاعَتِهَا بِصَوْتِهَا الرَّفِيعِ الخَفِيضِ المَلِيءِ بِالشَّجَنِ:
(عُلَبَ الكِبْرِيتِ.. لِإِشْعَالِ نِيرَانِكُمْ فِي هَذَا المَسَاءِ
البَارِدِ)... (جُودُوا عَلَيَّ بِبَعْضِ دَرَاهِمِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْزَقُونَ).
وَلَكِنْ،
صَوْتُهَا الضَّعِيفُ يَكَادُ يُسْمَعُ فِي مَدَى الظُّلْمَةِ وَلَا مِنْ مُجِيبٍ
فِي هَذِهِ الأَزِقَّةِ... فَالبَرْدُ أَخْلَى الطُّرُقَاتِ مِنَ المَارَّةِ،
إِلَى أَنْ تَهَالَكَتْ فَقَعَدَتْ عَلَى عَتَبَةِ أَحَدِ المَنَازِلِ مُتَكَوِّمَةً
عَلَى نَفْسِهَا لِتُدْفِئَ جِسْمَهَا الغَضَّ النَّحِيلَ.
وَصُدْفَةً
أَنَّهُ كَانَ أَمَامَهَا فِي الطَّرَفِ الآخَرِ مِنَ الطَّرِيقِ نَافِذَةٌ مُضَاءَةٌ
تَبْدُو مِنْ خِلَالِهَا مِدْفَأَةٌ مُتَّقِدَةٌ مَحْشُوَّةٌ بِالحَطَبِ،
وَأَمَامَ المِدْفَأَةِ طَاوِلَةٌ يَتَحَلَّقُ حَوْلَهَا أَهْلُ المَنْزِلِ
يَأْكُلُونَ مِنَ الأَطْعِمَةِ الشَّهِيَّةِ عَلَى ضَوْءِ الشُّموعِ.
كَمْ
شَعَرَتْ بِالغُبْنِ وَالمَهَانَةِ وَقَسْوَةِ الدُّنْيَا تِجَاهَهَا وَتِجَاهَ
عَائِلَتِهَا، وَلِأَنَّ البَرْدَ أَبَى إِلَّا أَنْ يَتَسَلَّلَ لِأَطْرَافِهَا
لَمْ تَجِدْ بُدًّا مِنْ أَنْ تُولِعَ أَعْوَادَ الثُّقَابِ الوَاحِدَ بَعْدَ
الآخَرِ لِتُدَفِّئَ كَفَّيْهَا المُرْتَجِفَتَيْنِ رَغْمَ خَوْفِهَا الشَّدِيدِ
مِنْ عِقَابِ وَالِدِهَا لِإِتْلَافِهَا الأَعْوَادَ بَدَلًا مِنْ أَنْ
تَبِيعَهَا، وَلَكِنَّهَا أَحَسَّتْ أَنَّهَا إِنْ لَمْ تَفْعَلْ هَذَا
فَسَتَمُوتُ بَرْدًا، فَثَابَرَتْ عَلَى فِعْلِهَا هَذَا وَهِيَ حَزِينَةٌ
وَالدُّمُوعُ تَذْرِفُ مِنْ عَيْنَيْهَا، فَذَكَرَتْ جَدَّتَهَا الَّتِي مَاتَتْ
مُنْذُ سَنَتَيْنِ، وَهِيَ الوَحِيدَةُ الَّتِي كَانَتْ تَعْطِفُ عَلَيْهَا فِي
حَالِ حُزْنِهَا الشَّدِيدِ أَوْ حِينَ يَغْمُرُهَا الأَسَى، فَكَانَتْ تَحْنُو
عَلَيْهَا وَتَحْمِيهَا وَتَحْمِلُهَا إِلَى فِرَاشِهَا بِحَنَانٍ وَعَطْفٍ
وَدِفْءٍ إِذَا أَرَادَ ذَوُوهَا مُعَاقَبَتَهَا لِتَقَاعُسٍ مَا.
وَهِيَ
عَلَى هَذَا الحَالِ التَّعِبِ وَالكَئِيبِ بَدَا لَهَا شَبَحُ جَدَّتِهَا وَقَدْ
ظَهَرَ لَهَا مِنْ خِلَالِ إِعْيَائِهَا كَالحُلُمِ، إِنَّهَا جَدَّتُهَا
العَجُوزُ الطَّيِّبَةُ تَهْمِسُ لَهَا بِحُبٍّ وَحَنَانٍ: (قُومِي وَاذْهَبِي
إِلَى أَهْلِكِ، فَهُمْ فِي انْتِظَارِكِ وَالحَسَاءُ سَاخِنٌ عِنْدَهُمَا وَلَا
تَخَافِي مِنْ عِقَابِهِمَا فَالتَّوْفِيقُ حَلَّ بِهِمَا مِنْ كَثْرَةِ مَا تَرَضَّيْتُ
عَلَيْهِمَا).
فَرَكَتِ
الفَتَاةُ عَيْنَيْهَا مُنْدَهِشَةً وَتَسَاءَلَتْ هَلْ كَانَ هَذَا حَقِيقَةً
أَمْ خَيَالًا؟! وَلَكِنَّهَا صَدَّقَتْ حَدْسَهَا فَقَامَتْ وَرَكَضَتْ صَوْبَ
بَيْتِهَا وَالهَوَاءُ البَارِدُ يَلْفَحُ وَجْهَهَا لِتَصِلَ مَأْوَاهُم لَاهِثَةً
مُسْتَنْفَذَةً، وَلِمُفَاجَأَتِهَا وَجَدَتْ وَالِدَيْهَا بانتظارها أَمَامَ
وِعَاءِ الحَسَاءِ السَّاخِنِ وَقِطَعِ الخُبْزِ الخَيِّرِ فَبَادَرَتْهَا
وَالِدَتُهَا: لِمَاذَا تَأَخَّرْتِ يَا ابْنَتِي الحَبِيبَة حَتَّى هَذَا
الوَقْتِ مِنَ اللَّيْلِ؟ لَقَدْ شُغِلَ بَالُنَا عَلَيْكِ.
لَقَدْ
كُنْتُ أُرِيدُ بَيْعَ بَعْضِ عُلَبِ الثِّقَابِ أَكْثَرَ فَالنَّهَارُ لَمْ
يَكُنْ مُجْدِيًا بِمَا فِيهِ الكِفَايَةِ.
فَتَلَقَّفَهَا
وَالِدُهَا بَيْنَ سَاعِدَيْهِ لِيُخْبِرَهَا: لَا تَقْلَقِي يَا ابْنَتِي بَعْدَ
اليَوْمِ، لَقَدْ تَوَفَّقْتُ بِعَمَلٍ دَائِمٍ لِي، وَلَا حَاجَةَ لَكِ بَعْدَ
اليَوْمِ لِلْعَمَلِ، بَلْ سَتَبْدَئِينَ الذَّهَابَ إِلَى المَدْرَسَةِ.
وَعُلَبُ
الكِبْرِيتِ المُتَبَقِّيَةِ، مَاذَا أَفْعَلُ بِهَا؟
وَالِدُهَا:
دَعِينَا نُشْعِلُهَا وَاحِدَةً بَعْدَ الأُخْرَى هَذِهِ اللَّيْلَةَ ابْتِهَاجًا
بِإِيجَادِي العَمَلَ الجَدِيدَ.
قَبَّلَتْ
أَبَاهَا عَلَى رَأْسِهِ، وَأَحَسَّتْ بِالدِّفْءِ الحَقِيقِيِّ فِي أَحْضَانِ
وَالِدَيْهَا، ثُمَّ تَذَكَّرَتْ جَدَّتَهَا مِنْ جَدِيدٍ، وَلَكِنَّهَا هَذِهِ
المَرَّةَ تَذَكَّرَتْهَا بِسُرُورٍ، وَبَدَؤُوا يَتَنَاوَلُونَ حَسَاءَهُمْ السَّاخِنَ
وَهُمْ يَضْحَكُونَ وَيُمَنُّونَ النَّفْسَ بِإِشْعَالِ كُلِّ أَعْوَادِ
الثُّقَابِ هَذِهِ اللَّيْلَةَ.
بواسطة
نبيل أبو حمد
قصة مُخَيِّبَة: فَصاحة بعد فوات الأوان
قصة للأطفال: الأشجار تنتصر على الأشرار
قصة للأطفال: مزحة بريئة تغمر القلوب بالسعادة
نوادر العرب: مغامرات أبو القاسم: حذاء البؤس والوفاء
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق