لا يُستهان بالجرم اليسير
فِي سَالِفِ العَصْرِ وَالأَوَانِ، إِذْ كَانَتِ النُّفُوسُ تُصَارِعُ الكَائِنَاتِ الصَّغِيرَةَ فِي مِيدَانِ الحَيَاةِ، نَزَلَ بَرغُوثٌ طُفَيليٌّ عَلَى رَجُلٍ مُكْتَمِلِ العَقْلِ، فَلَمْ يَجِدْ فِي بَدَنِهِ مَأوًى إِلَّا جِلْدَهُ، وَاتَّخَذَ مِنْهُ مَسرَحًا لِجَشَعِهِ وَمَصْدَرًا لِقُوتِ يَومِهِ. فَمَا كَانَ مِنْ هَذَا البَرغُوثِ إِلَّا أَنْ استَلَذَّ عَضَّ الرَّجُلِ، وَعَبَّ مِنْ دَمِهِ حَتَّى أَضرَمَ النَّارَ فِي جِلدِ صَاحِبِهِ، فَتَوَالَى الحَكُّ مَكَانَ العَضِّ، وَتَعَاظَمَ الأَلَمُ مَعَ كُلِّ نَبْضٍ.
وَكَمَا
تَنشَبُ الصِّرَاعَاتُ بَيْنَ الجَبَابِرَةِ، كَذَلِكَ تَنشَبُ بَيْنَ الضُّعَفَاءِ،
فَالرَّجُلُ، وَقَدْ أَثَارَتْ بِهِ وَخَزَاتُ البَرغُوثِ نَقْمَةً مُستَعِرَةً،
أَعلَنَ حَربَهُ عَلَيهِ، مُستَعِينًا بِفِطنَتِهِ وَسُرعَةِ يَدَيهِ. لَكِنَّهُ،
عَلَى الرَّغمِ مِنْ صِغَرِ عَدُوِّهِ، وَجَدَ فِي الإِمسَاكِ بِهِ حِيلَةً كَادَ
يُصِيبُ فِيهَا الضَّعْفَ، وَفِي الظَّفَرِ بِهِ صِرَاعًا استَبَدَّتْ بِهِ
الحِيلَةُ وَالمُرَاوَغَةُ.
وَأَخِيرًا،
بَعدَ طُولِ كِفَاحٍ، قَبَضَ الرَّجُلُ عَلَى البَرغُوثِ بَينَ أُصْبُعَيْهِ،
وَانتَصَبَ بَينَهُمَا القَضَاءُ كَقَاضٍ لَا يَقْبَلُ النَّقْضَ. فَنَظَرَ إِلَى
هَذَا المَخلُوقِ الصَّغِيرِ، وَقَالَ بِصَوتٍ تَفُوحُ مِنْهُ السُّخرِيَةُ: "أَيُّهَا
الضَّعِيفُ، مَا الَّذِي أَغْرَاكَ بِأَنْ تَجعَلَ مِنْ جِلدِي مَلْعَبًا، وَمِنْ
أَلَمِي مَأْرَبًا؟ أَلَا تَدرِي أَنَّ الجَرَائِمَ، وَإِنْ صَغُرَتْ، لَا تَفلِتُ
مِنْ يَدِ العَدَالَةِ؟"
فَرَدَّ
البَرغُوثُ بِصَوتٍ يَمْلَؤُهُ الرَّجَاءُ، وَقَدْ انعَقَدَتْ عَلَيهِ خُيُوطُ
الذُّلِّ وَالاستِعطَافِ: "يَا سَيِّدِي، إِنِّي مَخلُوقٌ صَغِيرٌ،
لَمْ أَبتَغِ مِنْ فِعلِي هَذَا إِلَّا البَقَاءَ. فَلَا تُؤَاخِذنِي، فَأَنَا لَا
أَملِكُ فِي عَالَمِي إِلَّا مَا تَسُوقُهُ لِي غَرِيزَتِي. أَنتَ قَوِيٌّ،
وَأَنَا ضَعِيفٌ، أَفَلَا يَلِيقُ بِالكَبِيرِ أَنْ يَعفُوَ عَنِ الصَّغِيرِ؟"
ضَحِكَ
الرَّجُلُ مِنْ تَوَسُّلَاتِ البَرغُوثِ، لَكِنَّهُ كَانَ ضَحِكًا تَكسُوهُ
سُخرِيَةُ العَادِلِ حِينَ يَسمَعُ الأَعذَارَ البَاطِلَةَ. ثُمَّ قَالَ: "يَا
هَذَا، وَإِنْ كُنتَ صَغِيرًا، فَقَدْ جَرَّتْ عَلَيَّ أَفعَالُكَ أَذًى عَظِيمًا.
وَلْيَعلَمِ المُذنِبُونَ أَنَّ الخَطَايَا، وَإِنْ قَلَّتْ فِي الظَّاهِرِ،
تَحمِلُ فِي بَاطِنِهَا مَا يَعظُمُ. فَلَا يَجْدُرُ أَنْ يَمُرَّ الجُرْمُ بِلَا
عِقَابٍ."
ثُمَّ
أَحكَمَ قَبضَتَهُ عَلَيهِ، وَأَطبَقَ عَلَى البَرغُوثِ كَأَنَّمَا يَختِمُ فَصلًا
مِنْ فُصُولِ قَدَرِهِ، وَمَا هِيَ إِلَّا لَحْظَةٌ حَتَّى انتَهَى ذَلِكَ
الطُّفَيلِيُّ نِهَايَةَ عِبْرَةٍ لِمَنْ يَتَّخِذُ مِنْ أَذَى الآخَرِينَ
سَبِيلًا لِلبَقَاءِ. وَهَكَذَا، طَوَى الرَّجُلُ قِصَّةَ البَرغُوثِ، لِيَعُودَ
إِلَى يَومِهِ خَالِيَ البَالِ مِنْ وَخْزِ الطُّغَاةِ الصِّغَارِ.
وَفِي الحِكَايَةِ عِبرَةٌ لِمَنْ يَعتَبِرُ، أَنَّ الخَطَأَ مَهْمَا كَانَ ضَئِيلًا، يَزرَعُ بُذُورَ السُّخطِ فِي نُفُوسِ العِبَادِ، وَأَنَّ العَدلَ لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ كَبِيرٍ وَصَغِيرٍ، وَلَا بَيْنَ ظَاهِرٍ وَبَاطِنٍ.
قصة للأطفال: الثعبان والنمر والقرد
قصة وحكمة: حصان الحرب والطحان الحكيم
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق