الثلاثاء، 10 ديسمبر 2024

• قصة أسطورة: هرقل: ملحمة التكفير والصراع مع أقدار الآلهة

التكفير عن الذنب يصنع الخلود

في عصور الأساطير اليونانية التي غمرت الكون بأسرارها، وتوّجت الأبطال بتاج المجد على صهوات الخلود، وُلد في حُلكة الليالي نجمٌ مشعٌّ، ملؤه القوّة والبطولة... إنه هرقل، أو كما دعاه الإغريق: هيراكليس، مجدُ هيرا وأسطورة الرجال الشُجعان.

نشأت أرض اليونان على أكتاف الآخيين الذين هاجروا إلى ربوعها في القرنين الرابع عشر والثالث عشر قبل الميلاد. عصرهم كان مهدًا خصبًا للقصص الملحمية والخرافات المبهرة، حتى صار يُعرف لدى المؤرخين بـعصر الأبطال. ومن بين هؤلاء الأبطال الذين صنعتهم الأساطير وزيّنت بهم دفاتر التاريخ، برز هرقل كالنجم المتوهج في ظُلمات السماء.

في ليلةٍ نسجت فيها الأقدار خيوطًا من الغدر والكيد، كان ميلاد هرقل قدرًا محتومًا. جاء إلى الحياة ابنًا لـزيوس إله السماء، وألكمين الفانية الجميلة. حين عادت إلى دارها، متخفّيةً في شكل زوجها، بذل زيوس حبَّه العارم لها؛ فحملت بتوأمٍ من سُلالتين مختلفتين، أحدهما هرقل، صنيعة الآلهة، والثاني يورسياس، نتاج البشر.

ولكن الكراهية دبّت في قلب هيرا، زوجة زيوس، وشرعت في تدبير المكائد لابن زوجها غير الشرعي. ولما أقسم زيوس بأن من يُولد من بيت بيرسيوس في تلك الليلة سيصبح ملكًا أعلى، أبطأت هيرا ولادة هرقل، وسرّعت ولادة يورسياس. غير أن القدر كان أدهى من مكرها، فولد هرقل أخيرًا بفضل خادمة ألكمين التي خدعت هيرا، فأفلت العقد، وانطلق هرقل إلى الدنيا كالشعلة التي لا تنطفئ.

ولم تلبث هيرا أن أرسلت ثعبانين ليفتكا به وهو ما زال رضيعًا، لكن هذا البطل الصغير قبض على كل ثعبان بيدٍ من فولاذٍ، وخنقهما حتى صارتا جثتين هامدتين؛ لتجده مربيته يلعب بجسديهما كأنما هما لعبتان من خشب.

كانت القوة تتدفق في عروق هرقل كالنهر الهادر، لكنه ظل فريسةً لمكائد القدر وأحابيل الحقد التي نسجتها هيرا، فهبَّت عليه ريح الجنون السوداء، وجعلته يقتل زوجته وأبناءه بيديه، كأن يديه سيفان مسلَّطان على قلبه. وما إن أفاق من جنونه، حتى انقضّ عليه الندم كالنار المستعرة، يلتهم فؤاده ويعذّب روحه بلا رحمة. لم يجد هرقل مهربًا من أشباح ذنبه سوى التكفير عنه بأعمالٍ تعيد إلى نفسه الطهارة، فقادته خطواته المثقلة إلى عرش ملك تيرنثه، الذي كلفه بأعمال أشبه بمحن القدر وأحكام السماء.

انطلق هرقل إلى ميادين الخطر ومصارع الهلاك، فواجه أسد نيميّا الذي كانت مخالبه الفولاذية تتحدى السيوف، فأحكم قبضته عليه حتى سكن قلبه إلى الأبد، وارتدى جلده درعًا خالدًا. ثم خاض غمار الموت أمام أفعوان ليرنا الذي كلما قطع له رأسًا نبت مكانه اثنان، حتى أباد شره وأحرق جذور فساده. ولم يتوانَ في الإمساك بخنزير بريٍّ هائج، يزمجر كالرعد، فأخضعه لقوة ساعديه.

وحين قاده القدر لمطاردة الظبية الذهبية ذات الأقدام السحرية، لم تهن عزيمته ولم يكلّ سعيه حتى أدركها. وواجه طيور بحيرة ستيمفالا الجارحة التي تعشق دماء البشر، فسقطت بسهمه كأوراق الخريف الذابلة. ووقف أمام ثور كريت الذي أرسله بوسيدون ليفتك بالأرض، فروّض عنفوانه، وساقه ذليلًا بقوة بأسه.

واجه ديوميد ملك تراقيا في عرينه، وأبطل شره الذي كان يطعم خيوله من لحوم الرجال. ووقف نِدًّا لأمازونياتٍ لهنّ بأس كالصخر، فهزمهن وأطفأ نيران عتوّهن. حتى حين أُمر بتطهير إسطبلات أوجياس من قذارتها المستحيلة، سيّر الأنهار لتغسل الأرض في يومٍ واحد.

وحين دعا إلى مصارعة جيريون، العملاق الذي جمع في جسده رؤوسًا وأجسادًا متعجرفة، طرحه أرضًا بقوةٍ لا تُقهر. ثم شقّ طريقه إلى حديقة جزر الهيسبريد المسحورة، واقتنص التفاحات الذهبية بعد أن خدع أطلس ليعود بحِمل السماء إلى كتفيه. وأخيرًا، غاص في أعماق الظلام، وقيد الوحش سيربيروس، حارس بوابات الجحيم، ليغدو رمزًا للجرأة التي لا تعرف نهاية.

كانت مغامرات هرقل لهيبًا يطهّر خطاياه، وأعماله نُسجت من خيوط الأسطورة والمجد، حتى صار اسمه رايةً ترفرف فوق عرش الخلود، لا تُطوى ولا تنحني.

لكن القدر كان يترصده كما يترصد الصياد فريسته. في إحدى مغامراته، أصيب بسمٍّ من دم السانتور نيسوس. ولمّا كان الألم أشدّ من أن يُحتمل، صعد إلى قمة جبل أوتا، وأضرم نارًا أحرقت جسده ليصعد روحه إلى السماء، حيث خُلد كإله بين الآلهة.

وهكذا، تُطوى صفحة هرقل في الدنيا، لكن ذكراه باقية كالنقش على الحجر؛ درسٌ في القوة، وعبرةٌ في التكفير، وملحمةٌ تُحكى للأجيال حتى آخر الدهر...

إقرأ أيضاً:

قصة وحكمة: البرغوت والرجل

قصة وحكمة: الصياد والغفلة.. الجوهرة الضائعة

قصة وحكمة: المرأة ذات الجلدين

قصة وحكمة: طبيب القمر.. التأثيرعلى الأرواح قبل الأجساد

قصة وحكمة: الأشجار والفأس

للمزيد            

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

قصص قصيرة معبرة 2

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

قصص قصيرة مؤثرة

الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية

إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن

استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات

أيضاً وأيضاً 

قصص وحكايات

الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور

شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور

الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها

تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات

كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها

مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية






ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق