الغَدْرٌ
كَانَ فِي سَالِفِ العَصْرِ وَالأوَانِ، فِي قَرْيَةٍ صَغِيرَةٍ، شَيْخٌ حَكِيمٌ يُدْعَى البَرَاهِمِيّ، عُرِفَ بِعَقْلِهِ الثَّاقِبِ وَقَلْبِهِ الرَّقِيقِ. وَفِي صَبَاحِ أَحَدِ الأَيَّامِ، خَرَجَ يَتَنَزَّهُ فِي الغَابَةِ، حَيْثُ تَتَرَنَّمُ الطُّيُورُ وَيَتَمَايَلُ الشَّجَرُ، فَصَادَفَ قَفَصًا حَدِيدِيًّا يَتَوَسَّطُ المَكَانَ، وَفِي دَاخِلِهِ نَمِرٌ هَائِجٌ يَكَادُ يُحَطِّمُ قُضْبَانَهُ.
نَادَى
النَّمِرُ بِصَوْتٍ مُتَهَدِّجٍ: "أَيُّهَا البَرَاهِمِيُّ الحَكِيمُ،
أَرْجُوكَ أَنْجِدْنِي! لَقَدْ وَقَعْتُ فِي شَرَكِ صَيَّادٍ بِلَا رَحْمَةٍ،
وَأَنَا عَلَى وَشَكِ الهَلَاكِ."
تَرَيَّثَ
البَرَاهِمِيُّ وَتَأَمَّلَ المَوْقِفَ بِعَيْنٍ حَذِرَةٍ، ثُمَّ قَالَ:
"وَكَيْفَ لِي أَنْ أُطْلِقَ سَرَاحَكَ وَأَنْتَ مُفْتَرِسٌ لَا يَعْرِفُ
إِلَّا الاِفْتِرَاسَ؟ أَلَنْ تَأْكُلَنِي إِذَا مَا أَخْرَجْتُكَ مِنْ قَيْدِكَ؟"
قَالَ
النَّمِرُ بِصَوْتٍ مَكْسُورٍ: "أُقْسِمُ لَكَ، أَيُّهَا الحَكِيمُ، أَنَّنِي
لَنْ أَمَسَّكَ بِأَذًى. حَاجَتِي الآنَ لِلْحُرِّيَّةِ، وَلَيْسَ لِلطَّعَامِ."
تَرَدَّدَ
البَرَاهِمِيّ، وَلَكِنْ رَقَّ قَلْبُهُ وَقَرَّرَ أَنْ يُساعِدَ النَّمِرَ فِي
مِحْنَتِهِ، فَفَتَحَ القَفَصَ وَأَطْلَقَ سَرَاحَهُ. غَيْرَ أَنَّهُ مَا إِنْ
صَارَ النَّمِرُ حُرًّا، حَتَّى كَشَفَ عَنْ أَنْيَابِهِ وَقَالَ بِصَوْتٍ جَهْوَرِيٍّ:
"أَنْتَ الآنَ فَرِيسَتِي! لَقَدْ أَضْنَانِي الجُوعُ، وَلَنْ أَتَوَانَى
عَنْ الْتِهَامِكَ!"
شَهِقَ
البَرَاهِمِيّ بِدَهْشَةٍ وَقَالَ: "وَلَكِنَّ وَعْدَكَ كَانَ صَرِيحًا
أَلَّا تَمَسَّنِي بِسُوءٍ!"
ضَحِكَ
النَّمِرُ بِسُخْرِيَةٍ وَقَالَ: "إِنَّمَا الوَعْدُ فِي فَمِ الجَائِعِ
كَالسَّرَابِ فِي عَيْنِ التَّائِهِ. قَدْ غَيَّرْتُ رَأْيِي!"
فَطِنَ
البَرَاهِمِيّ بِفِطْنَتِهِ المَعْهُودَةِ إِلَى ضَرُورَةِ التَّرَيُّثِ، فَقَالَ
لِلنَّمِرِ: "إِنْ كُنْتَ تَرَى فِي أَكْلِي عَدْلًا، فَلْنَخْتَلِفْ إِلَى
حُكَمَاءِ الطَّبِيعَةِ. دَعْنَا نَسْتَشِيرْ ثَلَاثَةً مِنْ أَهْلِ الغَابَةِ،
فَإِنْ أَقَرُّوا بِإِنْصَافِكَ، سَلَّمْتُ لَكَ نَفْسِي دُونَ مُقَاوَمَةٍ."
وَافَقَ
النَّمِرُ، وَانْطَلَقَ الاِثْنَانِ فِي رِحْلَةِ البَحْثِ عَنْ الحُكَمَاءِ.
كَانَ أَوَّلُ مَنْ قَابَلَاهُ شَجَرَةً مُعَمِّرَةً تَعْلُو أَغْصَانُهَا
كَأَنَّهَا أَعْمِدَةُ السَّمَاءِ. قَصَّ البَرَاهِمِيّ عَلَيْهَا مَا جَرَى،
فَقَالَتِ الشَّجَرَةُ: "البَشَرُ يَقْطَعُونَ أَوْصَالَنَا دُونَ رَحْمَةٍ
وَيَصْنَعُونَ مِنَّا الوَقُودَ وَالبُيُوتَ، أَفَلَا يَحِقُّ لِلنَّمِرِ أَنْ
يَأْكُلَكَ؟"
تَأَلَّمَ
البَرَاهِمِيّ لِكَلَامِهَا، وَلَكِنْ لَمْ يَيْأَسْ، فَوَاصَلَ طَرِيقَهُ. ثُمَّ
اِلْتَقَيَا بِجَامُوسٍ قَوِيِّ القَرْنَيْنِ، فَقَصَّ البَرَاهِمِيُّ عَلَيْهِ
القِصَّةَ، فَأَجَابَ الجَامُوسُ: "إِنَّ الإِنْسَانَ يَنْهَبُ حَلِيبَنَا
وَيُسَخِّرُ أَجْسَادَنَا فِي الحُقُولِ حَتَّى نَذْبُلَ وَنَتَلَاشَى، أَلَيْسَ
مِنَ العَدْلِ أَنْ يَأْكُلَكَ النَّمِرُ؟"
اِنْكَسَرَ
قَلْبُ البَرَاهِمِيّ، وَلَكِنَّهُ قَرَّرَ اِسْتِشَارَةَ ثَالِثٍ. وَأَخِيرًا،
اِلْتَقَيَا بِابْنِ آوَى صَغِيرٍ ذَكِيٍّ تَتَلَأْلَأُ عَيْنَاهُ بِمَكْرٍ
وَاضِحٍ. قَصَّ البَرَاهِمِيّ مَا جَرَى، فَتَظَاهَرَ ابْنُ آوَى بِالدَّهْشَةِ
وَالاِرْتِبَاكِ، وَقَالَ: "كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَحْدُثَ هَذَا؟ لَعَلَّنِي
لَمْ أَفْهَمِ الأَمْرَ جَيِّدًا. هَلَّا أَعَدْتَ المَشْهَدَ أَمَامِي
لِأَتَبَيَّنَهُ؟"
وَافَقَ
النَّمِرُ، وَعَادَ إِلَى قَفَصِهِ لِيَشْرَحَ المَوْقِفَ. وَمَا إِنِ اسْتَقَرَّ
دَاخِلَهُ، حَتَّى أَشَارَ ابْنُ آوَى لِلْبَرَاهِمِيّ بِإِغْلَاقِ البَابِ سَرِيعًا.
أَغْلَقَ البَرَاهِمِيّ القَفَصَ بِإِحْكَامٍ، وَقَالَ النَّمِرُ فِي غَضَبٍ
عَارِمٍ: "لَقَدْ خُدِعْتُ!"
نَظَرَ
إِلَيْهِ ابْنُ آوَى بِاِبْتِسَامَةٍ مَاكِرَةٍ وَقَالَ: "الدَّهَاءُ خَيْرُ
سِلَاحٍ فِي مُوَاجَهَةِ القُوَّةِ العَمْيَاءِ. عُدْ إِلَى أَسْرِكَ أَيُّهَا
الجَشِعُ، فَالغَابَةُ لَا تَعْتَرِفُ إِلَّا بِالوَفَاءِ."
شَكَرَ
البَرَاهِمِيّ ابْنَ آوَى عَلَى حِكْمَتِهِ وَدَهَائِهِ، وَعَادَ إِلَى
قَرْيَتِهِ، يَحْمِلُ فِي قَلْبِهِ دَرْسًا عَظِيمًا عَنْ الحَذَرِ مِنْ وُعُودِ
مَنْ لَا أَمَانَ لَهُ.
قصة للأطفال: ذات الرداء الأحمر
قصة أسطورة: الصراع مع أقدار الآلهة
قصة وحكمة: الصَّيّاد وحطّاب الغابة
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق