مَنْجَمُ الحُرِّيَّةِ وَالحِكْمَةِ
فِي سَالِفِ العَصْرِ وَالأَوَانِ، وَفِي غَيَاهِبِ الغَابَاتِ الغَنَّاءِ، كَانَ هُنَاكَ طَائِرٌ عَجِيبٌ يُدْعَى "سِنْدُوكَا"، يَخْتَالُ بِجَنَاحَيْهِ كَالشَّمْسِ فِي وَسَطِ النَّهَار، وَيُحَلِّقُ فَوْقَ القِمَمِ بِلَا انْكِسَار. وَمَا جَعَلَ هَذَا الطَّائِرَ آيَةً فِي الغَرَابَةِ، أَنَّ فَضَلَاتِهِ، يَا سَادَةُ، مَا إِنْ تَمَسَّ الأَرْضَ حَتَّى تَتَحَوَّلَ إِلَى ذَهَبٍ يَلْمَعُ لَمَعَانَ الشِّهَابِ.
وَذَاتَ
يَوْمٍ، إِذْ كَانَ أَحَدُ الصَّيَّادِينَ يَطُوفُ بَيْنَ الأَشْجَارِ، أَرْهَقَهُ
المَسِيرُ وَأَعْيَاهُ التَّعَبُ، فَأَوَى إِلَى ظِلَالِ شَجَرَةٍ بَاسِقَةٍ،
كَانَتْ مَأوًى لِسِنْدُوكَا الطَّائِرِ الفَرِيدِ. وَبَيْنَمَا الصَّيَّادُ
مُسْتَلْقٍ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، إِذَا بِفَضْلَةٍ تَسْقُطُ مِنَ الطَّائِرِ عَلَيْهِ،
وَفِي لَمْحِ البَصَرِ، صَارَتْ ذَهَبًا نَقِيًّا كَالدُّرِّ المَصُونِ!
ارْتَعَدَتْ فَرَائِصُهُ، وَتَهَلَّلَتْ أَسَارِيرُهُ، وَقَالَ فِي نَفْسِهِ:
"يَا لِهَذَا الطَّائِرِ! هُوَ كَنْزٌ مَدْفُونٌ، وَمَنْجَمٌ مَصُونٌ! لَوْ
قَبَضْتُ عَلَيْهِ لَأَصْبَحْتُ مِنْ ذَوِي الثَّرْوَةِ وَالجَاهِ، وَمَلَكْتُ
الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا مِنْ زِينَةٍ وَسُرُورٍ."
عِنْدَهَا،
دَبَّرَ الصَّيَّادُ مَكِيدَةً، وَنَصَبَ فَخًّا مَاكِرًا بَيْنَ الأَغْصَانِ.
وَمَا هِيَ إِلَّا هُنَيْهَةً حَتَّى انْزَلَقَ الطَّائِرُ الذَّهَبِيُّ فِي شِرَاكِهِ،
فَانْطَوَتْ عَلَيْهِ الأَشْوَاكُ، وَطَارَ حُلْمُ الحُرِّيَّةِ، وَأَصْبَحَ
أَسِيرَ الأَوْهَامِ.
فَرِحَ
الصَّيَّادُ فَرَحًا عَظِيمًا، وَحَمَلَ الطَّائِرَ إِلَى قَفَصٍ مِنْ حَدِيدٍ،
وَكَأَنَّهُ مَلِكُ الزَّمَانِ وَصَاحِبُ الجِنَانِ. نَظَرَ إِلَيْهِ وَقَالَ:
"غَدًا سَأَطُوفُ بِهَذَا الطَّائِرِ إِلَى المَدِينَةِ، وَأُبَدِّلُ
الفَقْرَ بِالثَّرْوَةِ، وَأَبِيعُ الحُلْمَ لِمَنْ يُقَدِّرُ قِيمَتَهُ."
لَكِنْ، مَا لَبِثَ أَنْ تَسَلَّلَ القَلَقُ إِلَى صَدْرِهِ، وَفَكَّرَ مَلِيًّا:
"إِنْ عَرَفَتِ النَّاسُ أَمْرَ الطَّائِرِ، تَهَافَتُوا عَلَيَّ، وَسَرَقُوا
كَنْزِيَ الَّذِي لَا يُقَدَّرُ بِمَالٍ. لَا، بَلْ سَأُقَدِّمُهُ لِلْمَلِكِ
عَسَى أَنْ يُكْرِمَنِي بِذَهَبٍ لَا يَنْفَدُ، وَكَنْزٍ لَا يُحْصَى."
فَتَوَجَّهَ
الصَّيَّادُ إِلَى قَصْرِ المَلِكِ المُهَابِ، وَدَخَلَ بَيْنَ جُنْدٍ وَحُجَّابٍ،
وَقَالَ: "يَا مُولَايَ، أَتَيْتُكَ بِمَا لَمْ تَرَهُ عَيْنٌ، وَلَمْ
يَخْطُرْ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ؛ طَائِرًا يَهَبُ الأَرْضَ ذَهَبًا نَقِيًّا،
وَيَجْعَلُ الصَّخْرَ كَنْزًا دَفِينًا." فَأَمَرَ المَلِكُ بِوَضْعِ
سِنْدُوكَا فِي قَفَصٍ مِنْ ذَهَبٍ مُحَلًّى بِالدُّرِّ وَاليَاقُوتِ.
لَكِنَّ
مُسْتَشَارِي المَلِكِ، وَقَدْ سَكَنَ الشَّكُّ فِي صُدُورِهِمْ، قَالُوا:
"أَيُّ مَكْرٍ هَذَا؟ أَيُّ دَهَاءٍ ذَاكَ؟ كَيْفَ يُهْدِي رَجُلٌ طَائِرًا
يَصْنَعُ الذَّهَبَ؟ لَا بُدَّ أَنَّ فِي الأَمْرِ خَدِيعَةً مَكْشُوفَةً."
فَأَشَارُوا عَلَى المَلِكِ أَنْ يُعَاقِبَ الصَّيَّادَ وَيُطْلِقَ سَرَاحَ
الطَّائِرِ.
وَإِذْ
وَثِقَ المَلِكُ بِمَشُورَتِهِمْ، أَمَرَ بِتَحْرِيرِ سِنْدُوكَا وَأَطْلَقَ
سَرَاحَهُ، فَعَادَ الطَّائِرُ إِلَى فَضَاءِ الحُرِّيَّةِ، وَوَقَفَ عَلَى جِدَارٍ
شَامِخٍ، وَبِحَرَكَةٍ وَاحِدَةٍ، أَسْقَطَ فَضْلَةً تَحَوَّلَتْ أَمَامَ المَلَإِ
إِلَى ذَهَبٍ أَصْفَرَ يَتَلَأْلَأُ كَأَنَّهُ مِنْ نُورٍ. شَهِقَ المَلِكُ
وَشَهِقَ مَنْ حَوْلَهُ مِنَ العَجَبِ، وَارْتَدَّتْ إِلَيْهِ بَصِيرَتُهُ بَعْدَ
فَوَاتِ الأَوَانِ، فَأَمَرَ بِالقَبْضِ عَلَى الطَّائِرِ مَرَّةً أُخْرَى، لَكِنْ
هَيْهَاتَ! لَقَدْ انْطَلَقَ سِنْدُوكَا مُحَلِّقًا إِلَى عَنَانِ السَّمَاءِ،
بَعِيدًا عَنِ الطَّمَعِ وَالجَشَعِ، وَهُوَ يُنْشِدُ فِي أُفُقِ الحُرِّيَّةِ:
"مَنْ قَنَصَنِي فَقَدْ قَيَّدَ نَفْسَهُ،
وَمَنْ أَطْلَقَنِي أَطْلَقَ سَعَادَةَ الأَبَدِ."
وَظَلَّ الطَّائِرُ يَطِيرُ فِي الأُفُقِ، لَا يُرَى لَهُ أَثَرٌ، وَلَا يُسْمَعُ لَهُ خَبَرٌ، وَقَدْ أَقْسَمَ أَلَّا يَنْخَدِعَ بِمَكائِدِ البَشَرِ، وَأَنْ يَبْقَى حَذِرًا مَدَى الدَّهْرِ.
قصة وحكمة: الصياد والغفلة.. الجوهرة الضائعة
قصة وحكمة: طبيب القمر.. التأثيرعلى الأرواح قبل الأجساد
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق