قصة حقيقية يرويها أحد الشيوخ رحمه الله، يقول: كنتُ عائداً
إلى بيتي قبل المغرب بساعة في يوم من أيّام رمضان، فاستوقفني رجلٌ فقيرٌ من الذين يتردّدون
على درسي في البيت والمسجد تردُّدَ الزائر، فسلّم عليّ بلهفةٍ أدمعت عينيَّ وقال لي: أستحلفك بوجه الله أن تفطر
عندي اليوم؟
عقدتْ لساني لهفتُه، وطَوَّقَتْ عنُقي رغبتُه، وأشرقَ في
قلبي وجهٌ استحلفني به. فقلتُ له: يا أخي، الأهل بانتظاري وظروفي لا تسمح، ولكن !
يقول
الشيخ: وجدتُ نفسي أتبعُه إلى بيته الذي لا أعرف مكانه، ولا أعرف ظرفه في هذا الوقت
الحرج من موعد الإفطار، وصلنا إلى بيته، فإذا هو غرفةٌ ومطبخٌ وفناءٌ صغير مكشوفٌ على
سطحٍ اشتراه من أصحابه، وله مدخلٌ ودرجٌ خاص من الخشب لا يحتمل صعود شخصين، فخشباته
تستغيثُ من وهَنٍ خلَّفَهُ بها الفقر والقِدَم
.
كانت
السعادةُ تملأ قلبَ هذا الرجل، وعبارات الشكر والإمتنان تتدفّقُ من شفتيه وهو يقول
لي :أنظر يا سيدي، هذا
البيت ملكي (والملك لله)، لا أحد في الدنيا له عندي فلس، أنظر يا سيدي، الشمس تشرق
على غرفتي الصبح، وتغرُب من الجهة الثانية، وهنا أقرأ القرآن عند الفجر وقبل المغيب،
وزوجتي الله يرضى عليها تجلس على ذلك الشبّاك وتدعو الله لي، والله يا سيدي كأني أسكن
في الجنّة .
كل
هذا يجري على مسامعي وأنا أصعد على الدرج بحذر خشية السقوط، لحظات ووصلنا إلى الغرفة
فجلست، وذهب الرجل إلى زوجته، وسمعتُ صوتاً خافتاً من صاحب الدار يقول لزوجته: جَهِّزِي
الفطور، الشيخ سيفطر عندي اليوم، وصوت زوجته تقول له: والله، ما عندنا أكلٌ غير فول،
ولم يبقَ على أذان المغرب إلاّ نصف ساعة، ولا شيء عندنا نطبخه، ولو كان عندنا فالوقت
لا يكفي !
سمعتُ
هذا الحوار كله، فلما جاء صاحب الدار قلت له: يا أخي، لي عندك شرط، أنا أُفطر مع أذان
المغرب على ماء ومعي التمر، ولا آكل إلاّ بعد نصف ساعة من الأذان، بعد ما أهضم التمر
والماء، وأصلّي وأُنهي وِرْدي اليومي، ولا آكل إلاّ فول مدمّس وبطاطا.
فقال
الرجل: أمرك سيدي.
قلت:
إذاً دعني الآن لأختلي مع ربّي.
ثم
أفطرت عنده وغادرت، وقد خرجتُ وكلّي سعادةٌ وبهجة، وقد أحببتُ الدنيا من لسان هذا الرجل
الذي ما نزلت من فمه عباراتُ الثناء والحمد على نِعم الله وعلى هذا البيت الذي ملّكَهُ
الله إيّاه، وهذه الحياة الجميلة التي يتغنّى بها
.
ثم
دُعيت بعد أيام مع مجموعةٍ من الوجهاء على الإفطار عند أحد التجّار الأثرياء، وكان
من الذين أنعمَ الله عليهم بالمال والجاه والأولاد والحسب والنسب، وكانت الدعوة في
مزرعةٍ فخمة فيها مما لذّ وطاب، يتوسّطها منزل أقرب ما يكون للقصر، يُطِلُّ على مسبحٍ
ومرْبَط خيلٍ فيه نوادر الخيل الأصيلة.
أفطرنا
عند الرجل وأثناء المغادرة، انفرد صاحبُ الدعوةِ بي، وشكى لي من ضيق الحياة وهموم التجارة،
ومتاعبِ الأولاد وسوء طباع زوجته، وطمعِ مَن حولَه به، وكثرة المصاريف لإرضاء الجميع،
وسأَمِه من هذه الحياة، ورغبته بالموت ليتخلّص من هذه الهموم
.والله، من باب منزل صاحب الدعوة، إلى باب سيارتي، سَوَّدَ
هذا الرجلُ الدنيا في عيوني، وأطبق عليَّ صدري وأنفاسي، فنظرتُ إلى السماء بعد أن ركبتُ
بسيّارتي وأنا أقول في قلبي:
الحمد
لله على نعمةِ الرضا، فليست السعادةُ بكثيرٍ ندفع ثمنه، ولكن السعادةُ حُسنُ صِلَةٍ
بالله، ورضىً بما قسم الله عزّ وجل .
المصدر:
الشيخ حسن حبنّكه الميداني
إقرأ أيضاً
للمزيد
أيضاً وأيضاً
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق