الخميس، 7 مايو 2020

• قصة تاريخية: الملكة صفية ومجزرة أبناء السلاطين


كانت صفية في الأصل جارية من بنات البندقية، أسرها القراصنةُ ثم باعوها إلى رجال السلطان مراد الثالث، وما لبثت أن انتقلت إلى حريم السلطان، ورغم أنها لم تكن بارزة الجمال، فقد تميّزت بالمرح والجاذبية مما أدى إلى سرعة تَعَلُّق مراد بها، ولم يمضِ عامٌ على دخولها الحريم، حتى أنجبت له ولداً أطلق عليه أبوه اسم محمد فاتح القسطنطينية.

وإذ حَظِيِت صفية بلقب السلطانة دون بقية الجواري والحريم، فقد أصبحت هي الشخصية الثالثة في القصر السلطاني بعد السلطانة الوالدة نوربانو اليهودية وأخته "أسما سلطان"، وسرعان ما سَرَتْ الشائعات في القـصـر بأن السلطان لا يقنع بمشاركة صفية الفراش بل أولع بقضاء الساعات في محادثتها ومناقشة شئون الدولة معها.
نستطيع أن نبدأ قصة الملكة صفية مع وفاة زوجها السلطان مراد الثالث، فعندما دخل مراد في دور الاحتضار، وبدأت الاستعدادات لإعداد جثمانه للدفن وإجراء مراسم العزاء في القاعة الكبرى لقصر السلطنة، أسرعت صفية إلى ولدها محمد خان تطلب منه سرعة الجلوس في صدر القاعة على مقعد العرش ليكون مستعداً لاستقبال المعزّين بصفته السلطان الجديد. وأطل محمد خان حوله فلم يجد أحداً من إخوته الثمانية عشر لمشاركته في تقبّل العزاء، وسأل أمه عن سِرِّ تخلفهم عن الحضور، فقالت له: لا يَثُورَنَّ قلقُك، فأنتَ وحدَك بصفتك السلطان الجديد ستقوم بواجب تقبّل العزاء في السلطان الراحل. أما إخوتك الباقون، فقد سبقوك إلى داخل الضريح ليكونوا في استقبال جثمان أبيهم عند الدفن.
ولم يكن محمد الثالث يدري أن إخوته الثمانية عشر غير الأشقاء قد سبقوه بالفعل إلى داخل الضريح قبيل شروق الشمس، إذ نزلوا جثثاً هامدة الواحد تلو الآخر مخنوقين، فقد كانت الملكة صفية قد دبّرت للأمر مع عدد من مماليكها ليكونوا في وقت واحد قد انفردوا بأبناء السلطان ليخنقوهم داخل غرفهم في سكون ويحملوهم في جنح الليل وينفّذوا أمر السلطانة بأن تسبق أجسادهم جثمان السلطان قبل إنزاله إلى الضريح!
ولما علم السلطان محمد الثالث بما حدث قالت له أمه:
- لقد خلصتك منهم حتى لا ينازعك في السلطة أحد منهم، فتصبح وحدك السلطان دون منازع، ألا تعلم أن أباك السلطان مراد خان قد فعلها هو وزوجته اليهودية مع إخوته الخمسة محمد وسليمان ومصطفى وجهانكير وعبدالله حتى لا يزاحمه أحد في السلطة بعد وفاة أبيه السلطان سليم الثاني عام 1574؟
ولم يستغرب محمد الثالث مما فعلته أمه، فقد كان يعرف أنها تنتسب إلى عائلة "بافو" أحد دوقات البندقية الذين كانوا يخنقون أعداءهم ومنافسـيهـم داخل زنزانات قصر الدوقية ثم يلقون بجثثهم من فوق جسر التنهدات، حيث يغرقون سرّاً ولا يعرف أحد عنهم شيئاً.
هذه هي السلطانة صفية صاحبة أول مجزرة لأبناء السلاطين العثمانيين، وهي الظاهرة التي توالت بعد ذلك في عهود جميع سلاطين آل عثمان، وقد عرفت كيف تُخرس ألسنةَ الناس عندما تساءلوا عمّن يتبوأ العرش بعد السلطان الراحل، ففي ذلك الصباح، وقبل أن يوارى السلطان التراب، انتشر في العاصمة خبر تردد الناس في تصديقه يقول "أصبح محمد بن مراد صاحب العرش الوحيد باسم محمد الثالث، أما إخوته، فقد اختفوا بعد أن حاولوا قتل السلطان"، أما هؤلاء فقد ذكر أسماءهم كتاب "ألبوم العثمانيين" بقلم المؤرخ التركي "عبدالقادر ديديوجلو" وهم: سليم وبايزيد ومصطفى وعثمان وجيهانكير وعبدالله وعبدالرحمن وحسن وأحمد ويعقوب وعلمشاه ويوسف وحسين وكركود وعلي واسحق وعمر وعلاء الدين. والحق أن محمد الثالث لم يأمر بقتل إخوته، ولكنها إرادة وتدبير أمه صفية ليكون العرش لولدها وحده.
أدرك السلطان محمد الثالث ما كان يعنيه جده سليمان القانوني حين قال: "إذا أراد الله خراب مملكة سلّط على ملوكها النساء"، وبرغم ذلك فقد وقع في الخطأ الذي وقع فيه جده، فاستسلم للنساء استسلام من ضرب العمى على بصره وبصيرته، فكان أيضاً ألعوبة بأيدي حريمه وحظاياه العديدات وبخاصة أمه صفية التي لم يكن يردّ لها طلباً. وعرفت هي كيف تستغـل تعلـق ابنها بها، واستسلامه لها، فجعلت تدس الدسـائس في الخفاء لخدمة وطنها البندقية، والانتقام من أعدائها ومزاحميها، وأصبحت هي صاحبة الكلمة الأولى في القصر. وعندما ثار الجنود الإنكشارية وهاجموا "تومب كابي" مطالبين بأن تدفع رواتبهم كاملة، وبأن تعاد قيمة النقود إلى ما كانت عليه قبل أن يخفض الصدر الأعظم قيمة الربع منها، أوفدت السلطانة صفية من لدنها رسولاً يقول لزعمائهم:
- إن السلطان غاضب على وزيره الأكبر صاحب هذه الفكرة، ومولاكم يعدكم بأنه سيعيد إلى النقود قيمتها ويدفع لكم رواتبكم غير منقوصة، أما اليوم فإنه يدفع إليكم برأس وزيره المسئول.
وقاد جنود الحرس الوزير المسكين وسلموه للإنكشارية فذبحوه مهللين: "نصر الله السلطان".
وظلت تلك المرأة الداهية مسيطرة على ابنها محمد الثالث كما كانت مسيطرة على زوجها، واستمر السلطان أُلعوبة في يديها كما كان أبوه مراد من قبل، وعندما حاولت أن تفعل ذلك أيضاً مع حفيدها السلطان أحمد الذي تولى العرش بعد موت أبيه، رفض الانقياد لأهواء جدته، ووضع تحت تصرفها قصراً جميلاً على ضفاف البوسـفور تقضي فيه بقية حياتها.
ومن هناك، أوفدت الملكة صفية أحد مماليكها إلى مصر، فنقش اسمها على لوحة من الرخام في ذلك المسجد الذي ادّعت أنها شيّدته في القاهرة ولايزال يحمل اسمها حتى الآن.

إقرأ أيضاً
للمزيد              
أيضاً وأيضاً







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق