الجمعة، 12 يوليو 2024

• قصة وحكمة: اتقن فن اختيار التوقيت المناسب

جوزيف فوشيه يفهم تحركات الزمن

بدأ جوزيف فوشيه حياته مُدَرِّساً لاهوتياً غير نظامي في المدارس الفرنسية يتنقل من مدينة إلى أخرى في معظم سنوات العقد 1780 يُدَرِّس الرياضيات للفتيان. لم يخلص فوشيه نفسه لأي كنيسة ولم يرغب أبداً أن يعمل كقس ملتزم لأن طموحاته كانت أكبر من ذلك، وترك اختياراته مفتوحة انتظاراً لتحقيق فرصته.

وحين اندلعت الثورة الفرنسية في عام 1789 رأى أنه لم يعد عليه الانتظار: فخلع عن نفسه رداء الكهنوت وأطال شعره وانضم إلى الثوار لأن هذه كانت صيحة العصر، ورأى أنه إن فَوَّتَ هذه الفرصة فلن يستطيع أبداً أن يستعيدها، ولم يُفَوِّتها بل تقرب من القائد الثوري الشهير روبسبير وارتقى في مصاف الثوار. وفي عام 1792 انتخبته مدينة نانتس ممثلاً لها في المؤتمر القومي الذي انعقد في ذلك العام لوضع الدستور الجديد للجمهورية الفرنسية الناشئة.

بعد أن وصل فوشيه إلى باريس للانضمام إلى المؤتمر حدث انقسام عنيف بين المعتدلين وبين اليعقوبيين المتشددين، وأدرك فوشيه أنه لن يخرج أي من الطرفين منتصراً في هذا الصراع، فالسلطة نادراً ما تذهب إلى من يبدأون الثورات أو حتى إلى من أيدوها وساعدوا على استمرارها بل إلى من يعطونها شكلها النهائي، وذلك هو الجانب الذي كان فوشيه يرغب في الانضمام إليه.

كان لدى فوشيه حِسُّ بارع باختيار التوقيت المناسب، فقد بدأ مع المعتدلين لأنهم كانوا الأكثرية، ولكن حين جاء الوقت لاتخاذ قرار حول إعدام الملك لويس السادس عشر رأى أن جميع الناس تُطالب برأس الملك، لذلك جاء صوته مرجحاً الإطاحة برأس الملك على المقصلة، أي أنه تصرف کالمتشددين. ولكن حين اشتعلت التوترات في باريس رأى أن تَقَرُّبَه الوثيق من أي جانب يُعرِّضه للخطر، فوافق على منصب في الأقاليم واختفى عن المشهد لفترة، وبعد ذلك بشهور تم تعيينه حاکماً لمدينة ليون حيث أشرف على إعدام عشرات النبلاء، لكن عند وصول الأمر لمرحلة معينة قرر وقف القتل لأنه شعر أن جموع الناس قد ضاقت بكثرة الدماء المهدرة، وبالرغم من أن يديه كانتا لا تزالان ملطختين بدماء القتلى هتفت الجماهير في ليون باسمه باعتباره المخلص من عصر الترهيب.

لعب فوشيه أوراقه بإتقان حتى هذه اللحظة؛ لكن في عام 1794 استدعاه صديقه القديم روبسبيير إلى باريس لمحاسبته على أعماله في ليون. كان روبسبير هو العقل المدبر لعصر الترهيب والمسئول عن الإطاحة بمئات الرؤوس، وبدا أن رأس فوشيه الذي لم يعد يثق به روبسبيير هي الرأس التالية المهددة بالإطاحة. في الأسابيع التالية نشأ نزاع شديد بين الرجلين، وحمل روبسبير علانية وبشدة على فوشيه، واتهمه بالانتهازية والتلاعب وطالب باعتقاله، أما فوشيه الماكر فكانت حملته غير مباشرة، فبدأ سرا في حشد تأييد من ضاقوا بطغيان روبسبيير وتَحَكُّمِه. كان فوشيه يراهن على كسب الوقت لأنه كان يعلم أنه كلما طال عليه الوقت حَيّاً يستطيع أن يحشد مزيداً من المواطنين الساخطين على روبسبيير، وكان يحتاج دعماً واسعاً قبل أن يستطيع أن يتحرك ضد هذا القائد القوي، وكان يُنشد الدعم من المعتدلين ومن المُتَشَدِّدين على السواء مُحَرِّکاً خوفهم جميعاً من قسوة روبسبيير، لأن كل واحد منهم كان يخشى أن يكون هو الرأس التالية على المقصلة. أثمرت جهود فوشيه أخيراً في 27 يوليو: انقلب أعضاء المؤتمر على روبسبيير ومنعوه من إكمال خطبته الطويلة، وبسرعة تَمَّ القبض عليه، وبعدها كانت رأس روبسبيير وليس فوشيه هي التي تسقط في سلة المقصلة.

حين عاد فوشيه إلى المؤتمر بعد موت روبسبيير اتخذ خطوة باغتت الجميع، فقيادته للتآمر ضد روبسبير جعلت الجميع يتوقعون منه أن ينضم للمعتدلين، لكنه غَيَّرَ ولاءه من جديد وانضم إلى اليعقوبيين المتشددين. كانت تلك هي المرة الأولى التي يقرر فيها موالاة الفئة القليلة. المؤكد أنه أَحَسَّ باختمار رد فعل: كان يعرف أن المعتدلين الذين أَعدموا روبسبير سوف يستولون على السلطة وأنهم سوف يبدأون موجة جديدة من الترهيب، وهكذا انضم فوشية إلى من سيتعرضون للاضطهاد في الفترة التالية لأنهم الفئة التي لن يتهمها أحد بإحداث الاضطرابات التي كانت في الطريق. الانضمام للفريق الخاسر يُعَدُّ بالطبع مناورةً خطيرة، لكن من المؤكد أن فوشيه كان قد أجرى حساباته وعرف أنه يستطيع أن يحتفظ برأسه إلى أن يتمكن بهدوء من تأليب جموع الناس ضد المعتدلين وير سقوطهم عن السلطة. وعلى الرغم من أن المعتدلين قد طالبوا بالفعل بالقبض عليه في ديسمبر 1795 وربما كانوا على وشك إرساله إلى المقصلة، لكن وقتاً طويلاً كان قد مر بالفعل، وأصبح الناس يرفضون الإعدامات، ونجا فوشيه مرة أخرى من تَقَلُّب الأقدار.

تَوَلَّت السلطة حكومة جديدة هي حكومة المدراء، لكنها لم تكن من اليعقوبيين بل من المعتدلين، ولكنهم كانوا أكثر اعتدالاً من الحكومة التي أعادت الترهيب. نجا فوشيه برأسه ولكن كان عليه مع الحكومة الجديدة أن يغيب عن المشهد لفترة أخرى، وانتظر على الهامش لعدة سنوات تاركاً للزمن أن يُلَطِّف أي مشاعر قد تَكَوَّنَت ضده، وبعدها تَقَرَّب من المدراء وأقنعهم أن لديه اهتمام جديد وهو الاستخبارات، وأصبح جاسوساً براتب لدى الحكومة، وبرع في وظيفته الجديدة، وفي عام 1799 كافأته الحكومة بتعيينه وزيراً للشرطة، ولم يكن ذلك يعني فقط مزيداً من السلطة ولكن أيضاً تمكينه من أن ينشر تَجَسُّسَه بكل أنحاء فرنسا، وهو منصبُ زاد كثيراً من موهبته الطبيعية في تَحَسُّس ما قد تأتي به التيارات السياسية. أول التيارات الاجتماعية التي استطاع رصدها كان مسار نابليون، وكان وقتها جنرالاً شاباً متهوراً، توقع فوشيه أن يكون له شأن كبير في مستقبل فرنسا، وحين قام نابليون بانقلاب عسكري في 9 نوفمبر 1799 ادعى فوشيه أنه نائم، الحقيقة أنه ظل نائماً طوال اليوم، وكمكافأة له على هذا التعاون غير المباشر عَيَّنَه نابليون وزيراً للشرطة في حكومته الجديدة.

في السنوات التالية تزايد اعتماد نابليون على فوشيه، بل أنه منح هذا الثوري القديم ثروة كبيرة ولقباً تشريفياً هو دوق أوترانتو، لكن في عام 1808 وعلى عادته في قراءة عصره استطاع فوشيه أن يعرف أن كَفَّةَ الأقدار تميل ضد نابليون، ورأى أن الحرب العبثية التي شنها نابليون دون داع ضد إسبانيا وهي بلد لم تشكل تهديداً لفرنسا كانت علامة على فقدانه للحكمة في تقدير الأمور. ولأن فوشيه لم يكن من النوع الذي قد يَعلَق في سفينة غارقة، تآمر مع تاليران لإسقاط نابليون، وعلى الرغم من فشل المؤامرة وفصل تاليران وإبقاء فوشيه في منصبه تحت مراقبه وثيقة، فإن هذه الحركة أظهرت الاستياء المتزايد من الإمبراطور الذي فقد السيطرة على نفسه، وفي عام 1814 انهارت سطوة نابليون واستطاعت القوى المتحالفة أن تهزمه.

استعادت الحكومة التالية النظام الملكي، وتَوَلّى العرش الملك لويس الثامن عشر أخو لويس السادس عشر، وقرأ فوشيه أن لويس لن يستمر في الحكم طويلاً، وعاد للانتظار والترقب والابتعاد عن المشهد من جديد، وبالفعل هرب نابليون من سجنه في جزيرة ألبا، وفزع لويس الثامن عشر لأنه كان قد أبعد مشاركة المواطنين في الحكم وثار الناس للمطالبة بعودة نابليون. بحث لويس عن المساعدة من فوشيه المتشدد السابق الذي أرسل أخاه للمقصلة ولكنه أصبح الآن من أكثر السياسيين شعبية وتأثيراً في فرنسا، ولكن فوشيه لم يكن لِيُناصر خاسراً، فرفض طلب لويس وأقنعه أنه لا يحتاج للمساعدة لأن نابليون لن يستطيع أبداً أن يعود للسلطة (رغم أنه كان متيقناً من عكس ذلك). وبعد فترة قليلة جاء نابليون في جيش من المواطنين وحاصر باريس.

بعد أن تأكد لويس من أن حكمه ماضٍ إلى انهيار ومن خيانة فوشيه له وعدم رغبته في أن يبقى هذا الرجل القوي في حكومة نابليون، أمر بالقبض على فوشيه وإعدامه، وفي 16 مارس 1815 حاصرت الشرطة عربة فوشيه في أحد شوارع باريس، هل كانت نهايته إذن؟. استطاع فوشيه إقناع رجال الشرطة أنه لا يجوز القبض على مسئول حكومي سابق في الشارع وطلب منهم أن يعود لمنزله للتجهز في آخر اليوم، عاد رجال الشرطة بأمر القبض عليه فطلب منهم أن يرحموا عزيز قوم ذل وأن يسمحوا له بأن يغتسل وينتقى ملابس لائقة، فسمحوا له بذلك ولكنه لم يخرج إليهم وحين فتشوا غرفته وجدوا سُلَّماً مقابل نافذة مفتوحة يهبط إلى الحديقة ومنها إلى الخارج.

ظلت الشرطة ليومين تُمَشِّط باريس بحثاً عن فوشيه، لكن في نهايتهما كانت مدافع نابليون تُسمع من بعيد، وكان على الملك ورجاله أن يفروا قبل فوات الأوان، وبمجرد أن دخل نابليون خرج فوشيه من مخبأه. وهكذا استطاع فوشيه أن يغافل الجلاد مرة أخرى، ورَحَّبَ به نابليون وأعاده إلى منصبه القديم. طوال المائة يوم التي قضاها نابليون في الحكم قبل أن ينتقل لمنفاه الجديد في واترلو كان فوشيه هو الحاكم الفعلي للبلاد، وبعد سقوط نابليون عاد لويس الثامن عشر للحكم، وكما القطة ذات السبع أرواح عاد فوشيه إلى منصبه في ظل هذه الحكومة الجديدة، لكن هذه المرة أصبحت سطوته من القوة لدرجة جعلت حتى الملك لا يجرؤ أن يتحداها.

المصدر: THE 48 LAWS OF POWER, ROBERT GREEN (ترجمة د. هشام الحناوي)

إقرأ أيضاً:

قصة عجيبة: الأحذية تبحث عن الحرية

قصة صُدفة: بيدو والصخرة العجيبة

قصة نفسية: عتريس والبلدوزر السحري

قصة للأطفال: الأمير الذكي والأميرة الجميلة

قصة للأطفال: هيدي والجبال السحرية

للمزيد            

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

قصص قصيرة معبرة 2

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

قصص قصيرة مؤثرة

الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية

إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن

استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات

أيضاً وأيضاً 

قصص وحكايات

الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور

شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور

الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها

تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات

كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها

مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية 







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق