تِمْثَالُ النَبِيلِ وَطَائِرُ السُّنُونُو
فِي
وَسَطِ مَدِينَةٍ كَبِيرَةٍ كَانَ تِمْثَالٌ جَمِيلٌ لِأَحَدِ النُّبَلَاءِ
يَعْتَلِي مَنْصَّةً رُخَامِيَّةً مُرْتَفِعَةً.
كَانَ تِمْثَالُ النَبِيلِ مَصْنُوعًا مِنْ رَقَائِقِ الذَّهَبِ وَعَلَى مِقْبَضِ سَيْفِهِ حَجَرٌ مِنَ المَرْجَانِ الأَحْمَرِ، كَمَا كَانَتْ عَيْنَاهُ تَشِعَّانِ بَرِيقًا مِنْ خِلَالِ حَجَرَيْنِ مِنَ الزُّمُرُّدِ.
بَدَأَ
الشِّتَاءُ يَلُفُّ أَرْجَاءَ المَدِينَةِ وَبَدَأَتْ أَسْرَابُ السُّنُونُو
تُغَادِرُ إِلَى البِلَادِ الدَّافِئَةِ إِلَّا سُنُونُوًا وَحِيدًا كَانَ قَدْ
وَقَعَ فِي غَرَامِ قَصَبَةٍ جَمِيلَةٍ عَلَى ضِفَّةِ النَّهْرِ ظَلَّ
مُتَمَسِّكًا بِهَا وَبِلَحْنِهَا العَذْبِ حِينَ تَمُرُّ الرِّيحُ عَلَيْهَا.
لَكِنَّهُ
وَالبَرْدُ بَدَأَ يَشْتَدُّ، طَارَ قَاصِدًا بُيُوتَ المَدِينَةِ عَلَّهُ
يَحْتَمِي فِي سُطُوحِ مَنَازِلِهَا، لَكِنَّ التِّمْثَالَ اسْتَرْعَى
انْتِبَاهَهُ فَاحْتَمَى مَا بَيْنَ قَدَمَيْهِ وَأَحَسَّ بِالغِبْطَةِ
مُتَوَهِّمًا أَنَّهُ قَدْ أَصْبَحَ بَيْتًا لَهُ جُدْرَانٌ مِنْ ذَهَبٍ.
انْكَمَشَ
السُّنُونُو، عَلَى نَفْسِهِ طَالِبًا الدِّفْءَ وَالحِمَايَةَ حِينَ أَحَسَّ
بِنُقْطَةِ مَاءٍ تَسْقُطُ عَلَى رَأْسِهِ فَنَظَرَ إِلَى الأَعْلَى ظَانًّا أَنَّ
السَّمَاءَ قَدْ بَدَأَتْ تُمْطِرُ، لَكِنَّهُ سَرِيعًا مَا أَيْقَنَ أَنَّ لَا
مَطَرَ هُنَاكَ، فَعَادَ إِلَى وَضْعِهِ السَّابِقِ، لَكِنَّ نُقْطَةً أُخْرَى
وَقَعَتْ عَلَى رَأْسِهِ ثُمَّ لَحِقَتْهَا نُقْطَةٌ ثَالِثَةٌ، عِنْدَهَا نَظَرَ
إِلَى الأَعْلَى إِلَى وَجْهِ التِّمْثَالِ، لِيَجِدَ أَنَّ عَيْنَيْ النَبِيلِ
مَبْلُولَتَانِ بِالدُّمُوعِ وَأَنَّ هَذِهِ النُّقَاطَ الَّتِي تَضْرِبُ رَأْسَهُ
مَا هِيَ إِلَّا دُمُوعُ النَبِيلِ.
عِنْدَهَا
كَلَّمَهُ مُتَسَائِلًا: مَا الَّذِي يُبْكِيكَ أَيُّهَا النَبِيلُ وَأَنْتَ عَلَى
كُلِّ هَذَا الجَمَالِ؟!
رَدَّ
عَلَيْهِ النَبِيلُ بِصَوْتٍ يَكْتَنِفُهُ الحُزْنُ: إِنِّي مِنْ هُنَا وَأَنَا
عَلَى قَاعِدَتِي المُرْتَفِعَةِ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرَى تَعَاسَةَ النَّاسِ،
وَإِنِّي لَجِدُّ آسِفٌ لِأَنَّنِي عِنْدَمَا كُنْتُ حَيًّا فِي قَصْرِي لَمْ
أَكُنْ عَلَى بَيِّنَةٍ عَمَّا يَسِيرُ فِي المَدِينَةِ، فَقَدْ كَانَتْ حَيَاةُ
القُصُورِ المَرِحَةِ تَشْغَلُنِي عَنْ كُلِّ هَذَا الحُزْنِ.
السُّنُونُو:
وَالآنَ مَا الَّذِي تُرِيدُهُ مِنِّي وَالحَيَاةُ مِنْ حَوْلِنَا أَصْبَحَتْ
مُوحِشَةً مِنَ البَرْدِ وَالشِّتَاءِ؟
النَبِيلُ:
أُرِيدُكَ أَنْ تَقْتَلِعَ بِمِنْقَارِكَ هَذِهِ المَرْجَانَةَ الحَمْرَاءَ عَنْ
مِقْبَضِ سَيْفِي لِتَأْخُذَهَا إِلَى امْرَأَةٍ فِي المَنْزِلِ الرَّابِعِ فِي
الشَّارِعِ المُقَابِلِ لِأَنَّ طِفْلَهَا مَرِيضٌ وَلَيْسَ مَعَهَا ثَمَنُ
الدَّوَاءِ.
السُّنُونُو:
وَلَكِنَّهُ سَيْفُكَ أَيُّهَا النَبِيلُ وَسَيُصْبِحُ مُشَوَّهًا، كَمَا أَنِّي
أُحِسُّ بِالبَرْدِ وَلَا أَسْتَطِيعُ التَّجَوُّلَ كَثِيرًا سِيَّمَا وَإِنِّي
لَمْ أُغَادِرْ مَعَ رِفَاقِي إِلَى البِلَادِ الدَّافِئَةِ.
النَبِيلُ:
أَرْجُوكَ أَعِنِّي عَلَى الأَقَلِّ هَذَا المَسَاءَ، فَالمَرْأَةُ الفَقِيرَةُ
وَابْنُهَا المَرِيضُ يَهُزَّانِ مَشَاعِرِي.
السُّنُونُو:
كَمَا تَشَاءُ، لَكِنْ أَرْجُو أَلَّا تُعِيدَ الكَرَّةَ مَعِي مَرَّةً أُخْرَى.
وَطَارَ
السُّنُونُو حَامِلًا المَرْجَانَةَ بَعْدَ اقْتِلَاعِهَا مِنْ سَيْفِ النَبِيلِ
لِيَدْخُلَ نَافِذَةَ المَرْأَةِ ثُمَّ يَرْمِيَهَا عَلَى سَرِيرِ ابْنِهَا
المَرِيضِ، فَتَغْتَبِطُ وَتَذْهَبُ فَوْرًا لِشِرَاءِ الدَّوَاءِ لابْنِهَا.
وَفِي
اللَّيْلَةِ الثَّانِيَةِ وَالسُّنُونُو مَلْمُومٌ عَلَى نَفْسِهِ يُسَائِلُهُ
النَبِيلُ مَرَّةً أُخْرَى أَنْ يَقْتَلِعَ بِمِنْقَارِهِ زُمُرُّدَةً وَاحِدَةً
مِنْ عَيْنَيْهِ لِيَأْخُذَهَا إِلَى كَاتِبٍ يُؤَلِّفُ مَسْرَحِيَّةً، لَكِنَّ
الجُوعَ دَبَّ فِيهِ لِدَرَجَةٍ مَنَعَتْهُ مِنْ إِتْمَامِ كِتَابَةِ عَمَلِهِ.
وَثَانِيَةً
يُلِحُّ عَلَيْهِ السُّنُونُو أَنَّ الطَّقْسَ بَارِدٌ، وَأَنَّهُ لَا يَسْتَطِيعُ
التَّجَوُّلَ فِي لَيْلِ الصَّقِيعِ هَذَا، لَكِنَّ إِلْحَاحَ النَبِيلِ جَعَلَهُ
يَقُومُ بِهَذِهِ المُهِمَّةِ طَالِبًا مِنَ النَبِيلِ أَلَّا يُعِيدَ الكَرَّةَ
مَعَهُ فِي اللَّيَالِي القَادِمَةِ.
وَرَغْمَ
أَنَّ النَبِيلَ الآنَ يَحْمِلُ قَلْبًا مَعْدِنِيًّا، إِلَّا إِنَّ المَشَاعِرَ
لَا تَزَالُ تَدِبُّ فِي ثَنَايَاهُ، وَيَلْفُهُ النَّدَمُ لِأَنَّهُ لَمْ
يُسَاعِدِ الفُقَرَاءَ حِينَ كَانَ حَيًّا، لِذَلِكَ أَلَحَّ عَلَى السُّنُونُو
مَرَّةً أُخْرَى أَنْ يَقْتَلِعَ زُمُرُّدَةَ عَيْنِهِ الثَّانِيَةِ وَيَأْخُذَهَا
لِفَتَاةٍ تَبِيعُ عُلَبَ الثِّقَابِ، لِأَنَّهَا أَوْقَعَتْ كُلَّ عُلَبِ
الثِّقَابِ فِي المَاءِ فَفَسَدَتْ وَأَنَّهَا تَبْكِي خَوْفًا مِنْ عِقَابِ
أَبِيهَا.
يَنْزِلُ
السُّنُونُو عِنْدَ رَغْبَةِ النَبِيلِ وَهُوَ يَرْتَجِفُ بَرْدًا وَيَعُودُ كَمَا
فِي كُلِّ مَرَّةٍ شَاحِبًا مُثْقَلًا بِالصَّقِيعِ الَّذِي بَدَأَ يَأْكُلُ
عَافِيَتَهُ.
بَعْدَ
تَعَاقُبِ الأَيَّامِ أَيْقَنَ السُّنُونُو أَنَّهُ لَنْ يَسْتَطِيعَ السَّفَرَ
الطَّوِيلَ إِلَى بِلَادِ الدِّفْءِ بَعْدَ الآنَ، كَمَا أَنَّ مَنْظَرَ النَبِيلِ
بَدَا مُشَوَّهًا، لِذَلِكَ أَدْرَكَا أَنَّ حَيَاتَهُمَا لَنْ يَكُونَ لَهَا
جَدْوَى إِلَّا إِذَا كَرَّسَاهَا لِأَعْمَالِ الخَيْرِ، عِنْدَهَا طَلَبَ
النَبِيلُ مِنَ السُّنُونُو أَنْ يَأْخُذَ كُلَّ يَوْمٍ رِقَاقَةً مِنْ رَقَائِقِ
الذَّهَبِ الَّذِي يَلُفُّهُ لِيُعْطِيَهَا إِلَى بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ الفُقَرَاءِ
فِي الأَحْيَاءِ الوَضِيْعَةِ، لِدَرَجَةِ أَنَّهُ بَعْدَ أَيَّامٍ تَعَرَّى النُّصُبُ
مِنْ مَنْظَرِهِ الجَمِيلِ السَّابِقِ وَأَصْبَحَ قِطْعَةَ حَدِيدٍ مُشَرَّعَةٍ
فِي الفَضَاءِ فِيمَا السُّنُونُو قَدْ تَهَالَكَ مِنَ التَّعَبِ وَالمَرَضِ
فَارْتَمَى تَحْتَ قَدَمَيِ النَّصْبِ لِيَمُوتَ.
بَعْدَ
عِدَّةِ أَيَّامٍ مَرَّ مُحَافِظُ المَدِينَةِ وَبَعْضُ وَجَهَائِهَا أَمَامَ النُّصُبِ
الَّذِي أَصْبَحَ حَدِيدًا فَشَعَرُوا بِالامْتِعَاضِ لِبَشَاعَةِ المَنْظَرِ،
فَسَأَلُوا عُمَّالَ التَّنْظِيفَاتِ رَمْيَ مَا تَبَقَّى مِنْهُ فِي مَزْبَلَةٍ
خَارِجَ المِنْطَقَةِ كُلِّهَا.
وَفِيمَا
هُمْ يَنْقِلُونَ النُّصُبَ المُتَهَالِكَ وَجَدُوا تَحْتَ قَدَمَيْهِ طَائِرَ
السُّنُونُو المَيِّتَ فَرَمَوْهُ مَعَهُ.
لَكِنَّ
فُقَرَاءَ المَدِينَةِ، وَقَدْ هَالَهُمْ مَا حَصَلَ لِلنَبِيلِ الخَيِّرِ،
قَصَدُوا مَكَانَ رَمْيِهِ، وَحَمَلُوا مَا تَبَقَّى مِنْهُ لِيَضَعُوهُ عَلَى
صَخْرَةٍ مُرْتَفِعَةٍ وَشَاهِقَةٍ، يَقْصِدُونَهَا كُلَّ مَطْلَعِ رَبِيعٍ
لِيَضَعُوا فِي أَسْفَلِهَا سِلَالَ الزُّهُورِ وَالرِّيَاحِينِ عِرْفَانًا
لِجَمِيلِهِ، فِيمَا قَصَبَةُ النَّهْرِ ظَلَّتْ تَصْدَحُ بِأَلْحَانِهَا
النَّاعِمَةِ كُلَّمَا مَرَّ الرِّيحُ عَلَيْهَا مُتَذَكِّرَةً الحُبَّ الَّذِي
كَانَ يَحْمِلُهُ السُّنُونُو لَهَا... وَلِلآخَرِينَ.
أوسكار
وايلد / بواسطة نَبِيلُ أَبُو حَمَد
قصة للأطفال: السنجاب يكشف الكذاب
قصة للأطفال: الفلاح مامورو والجان
قصة للأطفال: تمثال النبيل وطائر السنونو
قصة للأطفال: ملك الغابة الجديد
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق