السبت، 13 ديسمبر 2025

• قصة وحكمة: شيكو ليانج انتصر بالحلم لا بالسيف

نصرٌ بلا سيف

في صفحات التاريخ لحظات لا تُقاس بالقوة وحدها، بل بالحكمة التي تُحسن توجيهها. ومن بين تلك اللحظات تبرز قصة شيكو ليانج، العقل الاستراتيجي الفذ، الذي لم يخض معاركه بالسيوف فقط، بل خاضها في أعماق القلوب، فصنع نصراً أبقى من كل انتصار عسكري.

في عام 225 للميلاد، وجد شيكو ليانج، المخطط الاستراتيجي الصيني البارع ورئيس وزراء مملكة شو، نفسه أمام أخطر تحدٍّ واجهه في مسيرته. فقد أعدّت مملكة واي في الشمال هجمة كاسحة تهدد وجود مملكته، والأسوأ من ذلك أنها عقدت تحالفاً مع قبائل الجنوب التي كان يقودها الملك مانجهو. كان الخطر مزدوجاً، والوقت ضيقاً، وكان على ليانج أن يؤمّن جبهته الجنوبية إن أراد أن يواجه عاصفة الشمال بثبات.

وبينما كان يستعد لحملته نحو الجنوب، تقدّم إليه أحد حكماء معسكره بنصيحة بدت للوهلة الأولى مخالفة لمنطق الحرب، فقال له إن إخضاع تلك البلاد بالقوة لن يحقق السلام الدائم؛ فحتى لو هزم مانجهو اليوم، فإن قبائل الجنوب ستثور من جديد ما إن ينشغل بقتال واي في الشمال. ثم أضاف: «الأفضل لك أن تغزو القلوب لا المدن، وأنا واثق أنك تعرف الطريق إلى قلوب هؤلاء القوم». ابتسم شيكو ليانج وأجابه بهدوء: «كأنك تقرأ أفكاري».

لم يتأخر مانجهو عن المبادرة بالهجوم، فجاء بجيش قوي عازماً على كسر شو من الجنوب. غير أن ليانج، بحنكته المعهودة، استدرجه إلى فخ محكم، فقُتل معظم جنوده وأُسر مانجهو نفسه. لكن ما حدث بعد ذلك لم يكن متوقعاً؛ إذ أمر ليانج بفك قيود الأسرى، وقرّبهم إليه، وقدّم لهم الطعام والشراب، ثم خاطبهم قائلاً:
«أنتم رجال صالحون، ولكم آباء وزوجات وأبناء ينتظرون عودتكم بقلوب دامعة. عودوا إليهم، وطمّنوهم».
فانفجر الرجال بالبكاء شكراً وتأثراً، ولم يصدقوا ما نالوه من رحمة.

بعد ذلك، استُدعي مانجهو منفرداً، وسأله ليانج: «ماذا ستفعل إن أطلقت سراحك؟».
أجاب الملك الجنوبي بصراحة متحدّية: «سأجمع جيشي وأعود لمحاربتك، وإن أسرتني مرة أخرى فسأدين لك بالخضوع والولاء».
لم يكتفِ ليانج بإطلاق سراحه، بل منحه فرساً مسرجاً. وحين ثار قادة جيشه غضباً وسألوه عن سبب هذا التصرف، قال لهم بثقة: «أسر هذا الرجل أهون عليّ من إخراج شيء من جيبي، لكن ما أريده حقاً هو قلبه. فإذا كسبته، عمّ السلام في الجنوب».

وفى مانجهو بوعده، فعاد للهجوم مرة أخرى. لكن ضباطه، الذين ترك في نفوسهم إحسان ليانج أثراً عميقاً، تمرّدوا عليه، وألقوا القبض عليه، وساقوه أسيراً إلى معسكر شو. أعاد ليانج عليه السؤال نفسه، فأجاب مانجهو أن هزيمته لم تكن شريفة، بل جاءت بخيانة رجاله، ولذلك سيعود للقتال، وإن أُسر مرة ثالثة فسيخضع له حقاً.

تكررت المواجهات، وفي كل مرة كان ليانج يتفوق بالحيلة والدهاء، لا بالقوة وحدها. ومع كل هزيمة، كانت معنويات جنود مانجهو تتآكل؛ فقد اعتادوا معاملة ليانج الكريمة، وفقدوا رغبتهم في القتال ضده. وفي كل مرة كان يُؤسر فيها، يقدّم مانجهو عذراً جديداً: مرة بالخداع، وأخرى بسوء الحظ، ويقسم أنه إن أُسر مرة أخرى فلن يتمرد. وكان ليانج يفي بوعده ويطلق سراحه.

وعندما أُسر مانجهو للمرة السادسة، قال له ليانج: «ماذا ستفعل إن أطلقت سراحك الآن؟».
أجاب مانجهو: «إن أسرتني للمرة السابعة، فسأمنحك إخلاصي الكامل ولن أتمرد عليك أبداً».
قال ليانج بهدوء حاسم: «حسناً... لكن إن أُسرت بعد ذلك، فلن يكون هناك عفو».

هرب مانجهو إلى أقصى أطراف بلاده، يلتمس العون من ووتوجو، ملك ووجي، صاحب الجيش الهائل المرعب. كان جنوده يرتدون دروعاً مصنوعة من فروع مغزولة ومغموسة بالزيت، تُترك حتى تجف فتغدو صلبة لا تُخترق. تحالف الجيشان وسارا لملاقاة ليانج، الذي تظاهر بالذعر وتراجع سريعاً، مستدرجاً أعداءه إلى وادٍ ضيق. وهناك أشعل النار من حولهم، فامتدت ألسنة اللهب إلى دروعهم الزيتية، واحترق الجنود عن آخرهم في مشهد مروّع.

وسط تلك المذبحة، تعمّد ليانج إبعاد مانجهو وحاشيته، ثم أسره للمرة السابعة. ولم يحتمل رؤية أسيره بعد أن كان سبباً في هلاك هذا العدد الهائل من الرجال، فأرسل إليه رسولاً يقول: «لقد أمرني الملك بإطلاق سراحك. أعد جيشك إن استطعت، وحاول مرة أخرى أن تهزمه».

عندها، لم يعد مانجهو قادراً على المقاومة. زحف باكياً حتى بلغ ليانج، وسقط على ركبتيه قائلاً: «أيها الوزير العظيم، أنت حليف السماء. لن نقاومك بعد اليوم، نحن أبناء الجنوب».
سأله ليانج: «هل استسلمت الآن؟».
فأجاب مانجهو بصوت خاشع: «أنا وأبنائي وأحفادي مسَّنا كرمُك الذي لا حدود له، فكيف لنا ألا نخضع لك؟».

أقام شيكو ليانج مأدبة عظيمة تكريماً لمانجهو، وأعاده إلى عرشه، وردّ إليه الأراضي التي انتُزعت منه. ثم عاد إلى الشمال مطمئناً، بعدما أمن جبهته الجنوبية، ولم يعد بحاجة إلى العودة إليها مرة أخرى؛ فقد أصبح مانجهو حليفاً مخلصاً لا يمكن لأحد أن يفصله عنه.

هكذا لم ينتصر شيكو ليانج بالسيف وحده، بل انتصر بالحكمة والصبر وفهم النفوس. لقد علّم التاريخ أن القوة قد تُخضع الأجساد، لكنها لا تملك القلوب، وأن القائد الحق هو من يرى أبعد من لحظة النصر، فيصنع سلاماً يدوم، وحلفاء لا يخونون، وولاءً يولد من رحم الكرم لا من فوهة السلاح.

المصدر: THE 48 LAWS OF POWER, ROBERT GREEN 

 فيسبوك: https://www.facebook.com/ali.ramadan.206789

منصة أكس: https://x.com/AliRamadan54

جديدنا كتاب:

 100 قصة حب من كل زمان ومكان

  إقرأ أيضاً:

قصة تاريخية: قصة الإمبراطورية البيزنطية

قصة وحكمة: شجرة الشوح ونبتة العليق

قصة للأطفال: الشجرة الكريمة

قصة للأطفال: العجوز ذات اليد الحديدية

قصة للأطفال: ديك لا يُهزم

للمزيد            

حدوثة قبل النوم قصص للأطفال

كيف تذاكر وتنجح وتتفوق

قصص قصيرة معبرة

قصص قصيرة معبرة 2

معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب

قصص قصيرة مؤثرة

الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية

إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن

استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط

مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم

تربية الأبناء والطلاب

مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات

أيضاً وأيضاً 

قصص وحكايات

الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور

شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور

الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها

تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات

كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها

مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية

جديدنا كتاب:

 100 قصة حب من كل زمان ومكان



 





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق