السطوة زائلة، والمجد خالد.
لم يكنِ المالُ يومًا معيارًا للسطوةِ، بل حسنُ إدارتهِ وكرمُ النفسِ ورحابةُ الصدرِ. غيرَ أنَّ البعضَ يجعلهُ أداةً للقهرِ لا للبناءِ، كما فعلتْ دوقةُ مارلبورو، التي سخّرتْ ثروتَها وسلطتَها لا لخلقِ مجدٍ خالدٍ، بلْ لإعاقةِ غيرِها، فكانَ لها منَ القدرِ جزاءٌ يناسبُ فِعلَها.
في
أوائلِ القرنِ الثامنِ عشرَ، لم يكنْ في إنجلترا منْ يعلو شأنًا على دوق ودوقةِ
مارلبورو. فقد كانَ الدوقُ أعظمَ قائدٍ عسكريٍّ في أوروبا بعدَ انتصاراتِهِ
الساحقةِ على فرنسا، فيما كانتِ الدوقةُ سيدةَ البلاطِ الملكيِّ، مستأثرةً بقلبِ
الملكةِ آنَ التي اعتلتِ العرشَ عامَ 1702. وحينَ انتصرَ الدوقُ في معركةِ
بلينهايمَ عامَ 1704، أهدتهُ الملكةُ قطعةَ أرضٍ شاسعةٍ في وودستوكَ وأموالًا
لبناءِ قصرٍ يليقُ بمكانتِهِ، فاختارَ له اسمَ "بلنهايمَ" وأسندَ
تصميمَهُ إلى المهندسِ الشابِّ جون فانبرو، صاحبِ الرؤيةِ الطموحةِ.
انطلقَ
البناءُ وسطَ الاحتفالاتِ في صيفِ عامَ 1705، وكانَ القصرُ يُرادُ له أنْ يكونَ
شاهدًا على عظمةِ الدوقِ، مع بحيراتٍ صناعيةٍ وحدائقَ خلابةٍ وجسورٍ شاهقةٍ. لكنْ
منذَ اللحظةِ الأولى، لمْ يرقْ هذا الطموحُ للدوقةِ، فكانتْ ترى في فانبرو رجلًا
مبذرًا لا يحسنُ التصرفَ، وبدأتْ تفرضُ رقابةً خانقةً عليهِ، متدخلةً في أدقِّ
التفاصيلِ، مانعةً أيَّ نفقاتٍ إضافيةٍ، رغمَ أنَّ تمويلَ المشروعِ لمْ يكنْ منْ
مالِها الخاصِ.
لمْ
يمضِ وقتٌ طويلٌ حتى انقلبتِ الأمورُ عليها، فقد أرهقتِ الملكةَ آنَ بتذمرِها
المستمرِّ، ففقدتْ مكانتَها ونُفيتْ منَ القصرِ الملكيِّ عامَ 1711، مما زادَ منْ
حنقِها وأشعلَ عداءَها تجاهَ فانبرو، فباتتْ تُحاسبُهُ على كلِّ حجرٍ يُنقلُ وكلِّ
مبلغٍ يُنفقُ، حتى تعثَّرَ البناءُ وأوشكَ على التوقفِ.
ورغمَ
رغبةِ الدوقِ العجوزِ في رؤيةِ قصرِهِ مكتملًا قبلَ وفاتِهِ، استمرتِ الدوقةُ في
خلافاتِها التي طالتْ الجميعَ، منَ المهندسينَ إلى العمالِ، حتى باتَ المشروعُ
ميدانًا للصراعاتِ أكثرَ منه تحفةً معماريةً. وبينما كانَ الدوقُ يحلمُ بالعيشِ في
القصرِ، أسلمَ الروحَ دونَ أنْ يقضيَ ليلةً واحدةً فيهِ.
ورثتِ
الدوقةُ ثروةً طائلةً تكفي لإنجازِ المشروعِ، لكنها بدلًا منْ إنهائِهِ تكريسًا
لإرثِ زوجِها، اختارتِ الانتقامَ، فطردتْ فانبرو وأوقفتْ مستحقاتِهِ، متناسيةً
أنَّ القصرَ كانَ أعظمَ أعمالِهِ. وفي النهايةِ، أُنجزَ البناءُ على يدِ مهندسٍ
آخرَ تبنّى التصاميمَ الأصليةَ، لكنَّ فانبرو لمْ يُسمحْ له أبدًا بدخولِ القصرِ
الذي كرّسَ له عشرينَ عامًا منْ عمرِهِ. ماتَ الرجلُ محروماً منْ رؤيةِ تحفتِهِ،
بينما كُتبَ للقصرِ أنْ يصبحَ رمزًا جديدًا للمعمارِ، في حينَ تلاشتْ ذكرى الدوقةِ
ولمْ يبقَ منها إلا صورةُ امرأةٍ متسلطةٍ لمْ تجنِ سوى العزلةِ والنسيانِ.
لمْ
يكنِ المالُ وحدَهُ هو سلاحَ الدوقةِ، بلْ كانَ أيضًا لعنتَها. فقد أرادتْ أنْ
تتحكمَ بكلِّ شيءٍ، لكنها في النهايةِ فقدتْ كلَّ شيءٍ. أما فانبرو، فقد خسرَ
معركةَ حياتِهِ، لكنه كسبَ الخلودَ في كتبِ التاريخِ كأحدِ عباقرةِ الهندسةِ
المعماريةِ. فكمْ منْ رجلٍ عظيمٍ سقطَ بسببِ جشعِهِ، وكمْ منْ مبدعٍ حوربَ لكنه
خُلدَ بفنِّهِ؟ إنَّ المالَ قدْ يمنحُ السطوةَ، لكنه لا يمنحُ الخلودَ، وحدَها
الأعمالُ العظيمةُ تفعلُ ذلكَ.
قصة أسطورة: بروكوست طاغية القياس وسرير الهلاك
قصة وحكمة: حيلة القائد صنّ بن وسذاجة خصمه
قصة وحكمة: الإسكندر الأكبر يحاصر مدينة صور
قصة للأطفال: هدية لا تقدر بثمن
قصة سياسية: الإسكندر وقيصر ونابليون
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق