المال وسيلة للنفوذ، لا غاية.
في عصر النهضة، كان الفنانون يواجهون تحديًا مزدوجًا: البحث عن رعاة يدعمونهم ماليًا، والحفاظ على استقلاليتهم. لكن بيترو آرتينو تجاوز هذا الصراع، فجعل المال أداة للنفوذ بدلًا من التبعية. بذكائه وسخائه المدروس، فرض نفسه ندًّا للنبلاء، محوّلًا العطاء إلى سلطة تفتح له أبواب السطوة والمجد.
وُلد
بيترو آرتينو في بيئة متواضعة كابن لصانع أحذية، لكنه امتلك طموحًا جارفًا قاده
إلى أن يصبح أحد أشهر كتّاب عصر النهضة. أدرك مبكرًا أن موهبته في الكتابة الساخرة
والهجائية تحتاج إلى داعم مالي، لكنه لم يكن مستعدًا لأن يصبح تابعًا لأحد. وفي
عام 1528، قرر ترك روما والاستقرار في البندقية، حيث لم يكن كثيرون يعرفونه، وهناك
بدأ خطته غير التقليدية لصعود سلم السطوة.
فتح
آرتينو منزله للجميع، من الأثرياء والفقراء على حد سواء، وسرعان ما ذاع صيته كرجل
كريم يجود بماله بسخاء على سائقي الجندول والشحاذين واليتامى. وأمام عيون الناس،
لم يكن مجرد كاتب، بل رجل نفوذ وسيد له مكانته. هذا السلوك جعله محط أنظار
الفنانين والنبلاء، فصار منزله ملتقىً للمؤثرين في المدينة، ولم يعد أي شخص مهم
يزور البندقية دون أن يسعى للقاء آرتينو.
لكن
السخاء لم يكن غايةً في حد ذاته، بل وسيلةً ذكية لتحقيق هدفه الأكبر: النفوذ. ومع
أنه أنفق معظم ما ادخره، إلا أن هذا الإنفاق عاد عليه بأضعاف مضاعفة، فقد رأى النبلاء
أنه لا بد أن يكون من علية القوم لأنه يتصرف كما لو كان واحدًا منهم، وبدأوا
يتقربون إليه بالهدايا والعطايا.
كانت
استراتيجيته دقيقةً ومدروسة. بدلاً من البحث عن راعٍ يمنحه مجرد راتب يكفيه
بالكاد، سعى إلى كسب السطوة الحقيقية، فاختار المركيز مانتوا هدفًا له. كتب له
ملحمة أدبية، لكنها لم تكن مجرد استجداء كما اعتاد الفنانون الآخرون، بل قُدّمت
كهبة من ندٍّ إلى ندٍّ. لم يكتفِ بذلك، بل جَنَّد أشهر فناني البندقية، مثل النحات
جاكوبو ساسوفينو والرسام تيتيان، لإرسال هدايا فنية إلى المركيز، بعد أن درس ذوقه
جيدًا.
توالت
الهدايا، وبدأ المركيز يشعر بأنه مدين لآرتينو، فانهالت الهدايا والعطايا في
المقابل، بل وتوسعت دائرة نفوذه حين توسط المركيز لإنقاذ أحد معارفه من السجن، ما
أكسبه عرفان التجار والنبلاء الذين أصبحوا بدورهم يقدمون له خدماتهم. وهكذا، لم
يكن مجرد تابع يبحث عن دعم، بل صار هو صاحب النفوذ، يتعامل مع الملوك والباباوات
والدوقات كما لو كانوا شركاء لا أسيادًا.
لكن
حين شعر أن المركيز لم يكن سخياً بما يكفي في ردّ المعروف، انسحب بذكاء، وبدأ في
التودد لرعاة آخرين، فانتقل إلى خدمة ملك فرنسا، ثم آل ميديتشي، ثم الإمبراطور
شارل الخامس. وبفضل تعدد رعاته، لم يكن محتاجًا للخضوع لأحد، بل باتت سطوته تضعه
في مصافّ اللوردات.
كانت
تجربة آرتينو درسًا في كيفية استخدام المال كأداة للنفوذ، فقد فهم أن تحريكه
وإنفاقه بذكاء أهم من مجرد تكديسه. كما أدرك أن الهدايا ليست مجرد عطاء، بل وسيلة
لخلق التزامات غير معلنة بين المعطي والمتلقي. لم يضع نفسه يومًا في موضع التابع،
بل جعل الآخرين يشعرون بأنه ندٌّ لهم أو حتى صاحب فضل عليهم. وفي النهاية، لم يكن
مجرد كاتب شهير، بل رجل سطوة صنع لنفسه مكانة لا تُمحى في تاريخ عصر النهضة.
إن
المال قد يكون وسيلةً للتحكم في علاقات السطوة، لكن قيمته لا تتحدد بقدر ما تملكه
منه، بل بطريقة إنفاقه. فمن يتقن فن توظيف المال يستطيع أن يصعد إلى القمة، كما
فعل آرتينو، الذي جعل أسياد عصره يشعرون أنهم بحاجة إليه أكثر مما كان بحاجة إليهم.
المصدر: THE 48 LAWS
OF POWER, ROBERT GREEN
قصة أسطورة: بروكوست طاغية القياس وسرير الهلاك
قصة وحكمة: حيلة القائد صنّ بن وسذاجة خصمه
قصة وحكمة: الإسكندر الأكبر يحاصر مدينة صور
قصة للأطفال: هدية لا تقدر بثمن
قصة سياسية: الإسكندر وقيصر ونابليون
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7 مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق