عندما أراد ابن عتيق أن يتزوج من عفراء لم يشك أحد في
قبيلة طيء في أنها سوف ترفضه فورياً، لم يكن إلا شاعرا صعلوكا لا يملك إلا ناقة
وحيدة وخيمة نائية ومرعى يابساً والعديد من القصائد التي لا ثمن لها..
أما عفراء بنت قسامة فقد كانت تملك كل شيء تقريباً،
الحسب والنسب، وثروة أبيها الضخمة، وقوافله التي لا تكف عن الترحال، ولكن هذا كله
لم يكن يمثل شيئا مقارنة بجمالها الأخاذ، كل ما يمكن أن يقال إنه كان جمالاً
مكتملاً كأن كل قطعة من جسدها قد خلقت بمفردها وقدت بعناية ثم جمعت معا في دقة
وإحكام.
وعندما رآها ابن عتيق للمرة الأولى بجانب إحدى عيون
الماء ظل يهذي وقد طارت منه الكلمات وتكسرت القوافي، لم تكن هناك كلمات يمكن أن
ترتقي لمستوى جمالها، لم يكن هناك شيء في الصحراء في هذه الصحراء الرتيبة كمثل
تفردها.
وعندما عزم على التقدم للزواج منها نصحه أصدقاؤه قائلين:
أنها كنجوم الليل المضيئة، عليه أن يكتفي فقط بالتطلع إليها، وعندما أصر أخذوا
يسخرون من ذلك الصعلوك يحلم بامتلاك النجوم، ولكن حالته كانت تتدهور، أصبح عاجزاً
عن اليقظة والنوم، قرر أن يذهب إلى أبيها بمفرده وليكن ما يكون.
استقبله أبوها بدهشة واستمع إليه بغرابة، ولم يبد أنه
استمع إلى أي كلمة حاول أن يزين بها نفسه، ولكنه قال له فجأة:
- قد زوجتك إياها، فلا تبرح مكانك.
واندفع خارجًا من الخيمة، وسمع ابن العتيق كلمات وغمغمات
تتناهى من الخيمة الأخرى، أخذ يفكر في كلمات الأب، أهو رفض حسبه لشدة لهفته قبولاً،
كان الأمر أجمل من أن يكون حقيقة، ولكن الأب عاد مسرعًا وهو يقول باللهفة نفسها.
- العروس قد قبلت الزواج بك، وهى تقول لك أيضاً لا تبرح
مكانك.. سوف تدخل إليها الليلة.
وقبل أن يفيق من صدمته، جاء الشهود، ودقت الدفوف، وأعلن
الخبر في أرجاء القبيلة، وعقد العقد وزفت العروس، فبدأ الشك يلعب في صدر ابن عتيق،
ظل واجمًا طوال الاحتفال الذي أعد على عجل، يتلقى التهاني ونظرات الحسد بذهن شارد،
وعندما أصبح وحده أخيرًا مع عروسه كان متأكداً أن هناك شيئا ما غير صحيح.
كان أول شيء أصر عليه هو أن تتم المضاجعة الأولى بينهما
في النور، لن يسمح بوجود أي ظلام يمكن أن يقوده إلى الخديعة، ولكنها لم تكن في حاجة
إلى ذلك، كان جسدها يتألق بضوء خفي يشع منه ويترك ذراته معلقة في الهواء، كان كنزًا
حيّاً تخفي الثياب أجمل ما فيه، عذراء حقيقية، دماؤها قانية ولمساتها حيية،
ولهفتها صادقة، مرت عليه سبعة أيام كاملة وهو معها داخل الخيمة نفسها، وهو يراقبها
بعيون مفتوحة، دون أن يكتشف فيها عيبًا واحدًا، تركها قليلاً وسعى إلى أقرب
أصحابه، تحدث معه عن انشغاله بهذا الكمال البشرى الذي لا يشوبه نقصان، وأنه لا من
شائبة ما، شيء لا يعرفه جعلتهم يوافقون عليه بهذه السهولة، قال صديقه:
- ربما لأنها أجمل بكثير مما ينبغي.
هل يمكن أن يكون هذا عيباً؟
ببطء شديد استطاع أن يعي ماذا يعنى أن يكون الجمال
الفائق عيبًا، في أي مكان تذهب إليه «عفراء» لم تكن هناك امرأة تجرؤ على الاقتراب
منها، أو الوقوف بجانبها، كن جميعًا يعرفن أن المقارنة ستكون صارخة، وأن جمالها
يمكن أن يزرى بجمال أي امرأة أخرى، أي زهرة، أي ظبية، أي نجمة متألقة، كان بهاؤها
لا يحتمل، وكمالها عصي عن الاحتمال، كانت تجلس دوماً وحولها فراغ قاحل وتحول هذا
الخوف من الاقتراب منها إلى نبذ مستمر، اكتشف أيضا أن هناك اسمًا سريًا يطلقه
الجميع عليها ويتبادلونه حولها، «الجرباء» تلك الناقة التي تتحاشاها بقية النوق،
كان التشبيه دقيقاً وقاسيًا ولكنه حقيقي.
حتى ابن عتيق أحس بوطأة هذا الجمال الطاغي، رغم أنها
كانت تهبه ذات نفسها دون تحفظ أو تكبر، رغمًا عنه بدأ يتأملها وهى تتحرك في المنزل
ويقارنها بنفسه، إذا ما جمعتهما مرآة واحدة أو انعكس وجهاهما على صفحة الماء أو
جلسا في الفراش بجانب بعضهما البعض، كان يحس أنه مجرد قرد قبيح ابتلاه الله وجعله
قيّمًا على أجمل زهور الأرض، وفي الأسواق عندما يسيران معًا، وتلتفت الأنظار
إليهما، كان يدرك أنهم يجرون المقارنة بين وجهها الصبوح ولحيته المغبرة، بين
ملامحها التامة التناسق، وانفه المفلطحة، كانوا جميعاً يسلخون جلده في صمت.
بدأ يغضب دون سبب ويثور بلا مناسبة، كف عن قول الشعر
وتفرغ للإساءة إليها، وهي هادئة كغدير صاف لا تتعكر ولا تغضب منه، كانت تشفق، ليس
عليه وحده، ولكن على ذلك العالم القبيح الذي يحيط بها؛ والذي حاولت أن تعطيه بعضا
من ذات جمالها، ولكن القبح كان أكثر من أن يقاوم، وأخيراً انهارت مقاومة ابن عتيق،
هتف بها في مرارة:
- يجب أن نفترق، لا أستطيع أن أواصل التحديق في ضوء
الشمس طوال الوقت، يجب أن أغمض عيني قليلا.. ربما أرتاح وأنساك.
وطلقها ابن عتيق ورحل بعيدًا وظلت أجمل نساء الصحراء
وحيدة، كأنها ناقة جرباء يتحاشاها الجميع.
مواضيع تهم
الطلاب والمربين والأهالي
قصص للأطفال
وحكايات معبّرة
إقرأ أيضًا
قصة ملهمة: رجل عجوز سيجعلك تخجل من نفسك
قصة ملهمة: الإسكندر والجندي الجبان
قصة وعبرة: قيصر روسيا يستطيع أن يفعلها
طفل صغير يصلي في المطار
قصة دينية: شمشون الجبار كما وردت قصته
في العهد القديم
قصة تاريخية: صلاح الدين والمرأة
النصرانية
للمزيد
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق