الخلود
لم يُرزق الأسدُ شبلاً يَخلُفُهُ في مملكته الممتدّة الأطراف. فكان أكثر ما يخشاه وهو الذي لا يخاف أن تنطفئ شمسه، وتُقبض نفسه ويسلمها قبل أن تجد الغابة من يحكمها، فيعمّها الخراب، ويلفّها بعد الإشراق كثيف الضّباب.
كانت
هذه المخاوف تقضّ مضجعه، وتؤرّقه فلا يزور النّوم مخدعه، فيبقى ساعاتٍ واجماً يُحدّق
في القمر، دون أن يرهقه طول السّهر. وكان يتأمّل النّجوم اللاّمعات، فيبهره منها
بريق الحياة، فيقول آه، لو آخذ من الشّمس، شعلة الحياة التي لا تذوي لنفسي. آه...
ليتني أطول القمر، فيهبني من خلوده طول العمر، أو أعثر في هذا الوجود. على عشبة
الخلود، ولكن أيصعب هذا على ملك أطاعته الدّنيا عن طواعية، وانقادت إليه مخلوقاتها
دون كراهيّة؟
وفي
يوم، ألحّت عليه الهواجس بشدّة، فانطلق الأسد كالمتعطّش الظمآن، إلى الغراب
المتأمّل قي شجرة السّنديان.
وناداه:
أيّها الغراب، يا صاحب النّظر الثّاقب والرّأي الصّائب، هل علمتَ شيئاً يُطيلُ عمرَ
الضّرغام، ويزيده عدّة أعوام؟
فأجابه
الغراب: المعذرة، يا أشجع قسورة، ولكنّي علمت من أجدادي ذوي الرّأي والتّدبير، أنّ
الأسود لا تعيش أكثر من خمسين سنة على أقصى تقدير.
فقال
الأسدُ: وكم تعيشون يا معشر الغربان؟
قال
الغرابُ: ثمانين سنة كاملة يا مولاي الأسد، وَتَمْتَمَ قائلاً: وقانا اللّه من
العين والحسد.
فَزَمْجَرَ
الأسدُ قائلاً: عجباً أَتُمنَحون مديدَ العمر أيّتها الغربان السّوداء، ونسبقكم
نحن ملوك الغابة إلى الفناء، لذا أريد من هذه الدّنيا مديدَ الأجل، وما أظنّك
أيّها الغراب تعجزُ عن الحلّ.
قال
الغراب: يا مولاي، إنّ من سوء حظّي أنّ الأقدار لم تُلهمني سبب طول الأعمار.
فنظرَ
إليه الأسدُ بشراسةٍ قائلاً: لا بدّ أنّ في جسمك سِرٌّ يُطيلُ عمرك، وحتّى لا أُضيع
الوقت، سألتهمك بأكملك.
فاهتزّ
الغراب من تحت عريشه، وأدرك أنّ يومه أسودُ من ريشه. وشعر بأنّ نقمة الهزبر «الأسد
الضخم» آتية، كأنّها سيول جارفة أو رياح عاتية. فتدارك الأمر قائلاً: ولكن يا
مولاي، نحن لا نُعَمِّرُ مثل بعض الزّواحف، فهي تعيش مائة سنة كالسّلاحف. ذلك
أنّها تَرُدُّ الموتَ بدروعها المنيعة، وتحتمي ببطء حركتها من جري الأيّام
السّريعة. وبفضل هذا الدّهاء، أمكن لها طول البقاء، ثمّ ألقى نظرة حذرة إلى بيت
الغيلم عند ساق الشّجرة. وهمس: معذرة يا جاري الغيلم «ذكر السلحفاة»، عمّا قاله
عنك فمي، فأنت طيّب المعاشرة، ولكن ساعة ينزل الخطر بفأسه، ينجو العاقل بنفسه.
فأطلّ
الغيلمُ برأسه قائلاً: قَبَّحَكَ اللّه يا نَحْسَ الغربان. أهذا ما تكنّه لي من
ودّ، بأن اخترت لي الاستقرار في بطن الأسد؟
فناداه
الأسد: اقترب أيّها الغيلم ولا تخف، ستحوز منّا عظيم الشّرف، فهيّا أخبرني عن سرّ
طول أعماركم.
فقــــال
الغيــــلم: تَعَلَّمْ يا مولاي من بطء القمر، وأنّ بطء الحركة يطيل العمر، وأنّ
أيّامك تطول وتدوم، بالإقلاع عن أكل اللّحوم، وَضَعْ على ظهرك صَدَفَةَ سلحفاة من
الأموات. تحفظ لك على مدى الأيّام دوام الحياة.
فَرِحَ
الأسدُ بما سمعه بأذنيه، وعاد مسرعاً بما قد حصل عليه.
وسرى
في الغابة خبرٌ في الحين، أنّ الأسد سيعيش مائة من السّنين، فتهاطلت على الغيلم
وفود من حيوانات الغابة.
وسارعت
إلى بيته تطرق بابه، فالفراشة التي تعيش شهرين، تحبّ أن تزيد ضعف ذلك مرّتين. أمّا
اليأفوفة «فرخ الدُّراج» فنصيبها يوم واحد، وتريد أن تحصل على يوم زائد. وطمع
الجمل الذي شارف على الأربعين أن يمدّ في عمره بضع سنين. وهاهو مالك الحزين سيسمّي
نفسه «مالك السّعيد» إذا زيد على سنواته الخمسين نصف عام جديد.
فقال
لهم الغيلم: رويدكم يا أهل الغابة لا يفقدن أحدكم صوابه. فالحياة مقسومة بينكم
بقانون.
ولا
ينكر ذلك إلاّ جاهل أو مجنون. فاطردوا عنكم هذه الأوهام. واستمتعوا بما قُسِمَ لكم
من أيّام. فكلُّ ما في الأمر أنّي احتلتُ على الأسد، حتّى أنجو من بطشه بهذا الجسد،
واعلموا أنّ قيمة الحياة في جليل الأعمال، لا في كثرة عددها والجري وراء الوهم
والخيال.
وبقي
الأسد ينوء بحمل الصَّدَفَة أيّاماً، لا يُعِيرُ لهذا الأمر اهتماماً. فكلُّ ما
يعنيه في الحكاية، أن يبتعد ما أمكن عن النّهاية. عسى أن يكون القدر، مطيلاً في
العمر، وما عليه إلاّ المثابرة لنيل الفرج.
وقديماً
قِيلَ: مَنْ أَدَمَنَ قَرْعَ البابِ وَلَجَ. وسرى الخبر في «السّفانا». كمن أشعل
في الهشيم نيراناً، إلى أن تناهى إلى مسامع أحد الأسود، خبر ذلك اليوم المشهود.
وكان
من ذوي الرّأي والتّدبير، يحظى بين الأسود بالاحترام والتّقدير، فقرّر زيارة ابن
عمّه في الإبّان «العرين».
إذ
ليس الخبر كالعيان، ولا تَسَلْ عن صدمة الاكتشاف، ووقوعه في شَرِّ ما كان يخاف...
أَسَدٌ عظيم الصّفات، يقبع محتمياً بصدفة سلحفاة، يا للخسارة والخيبة، أَسَدٌ أَضَاعَ
الهيبة.
فصاح
بسخريّة مؤلمة: أحلق لبدتي «الشعر الكثيف بين كتفي الأسد». إن كان هذا الأسد من
بني جلدتي.
ثمّ
نادى: أين صاحب المشورة، لَأَجْعَلَنَّهُ في أسوأ صورة. ولكنّ اللّوم على من اتّبع
وقلّد، وبدل أن يزأر غرّد، من تَنَكَّرَ لِأَهله وناسه، وغيَّر طعامه ولباسه، فكان
ضعيف الإيمان، مُغيّراً لِخَلْقِ الرّحمن.
عندها
نكس الأسد رأسه. ولامته نفسه، وندم على ذنبه.
واستغفر
ربّه. وقال: إنّي آسف، لن أتحوّل إلى زاحف، وسأعيش أسداً حتّى المماتُ ولن أرضى
بخلودٍ ثَمَنُهُ تَشَبُّهٌ بسلحفاة.
بواسطة
عماد الجلاصي
مواضيع تهم الطلاب والمربين
والأهالي
إقرأ أيضاً
نوادر العرب: أبو العيناء ورئيس الشرطة
قصة وحكمة: الحكيم ورجل يسبح في النهر
قصة وصيّة: الجَشِعُ والقائد على مأدبة الطعام
قصة مخيبة: طفيلي يتشارك الطعام مع رفاقه
قصة للأطفال: صديقي الديناصور تي ريكس
للمزيد
معالجة المشكلات السلوكية عند الأطفال والطلاب
الإدارة الصفية: 7
مقالات في الإدارة الصفية
إختر مهنتك: تعرف على
المهنة التي تناسبك من بين جميع المهن
استراتيجيات التدريس دليل المعلم للتعلم النشط
مراهقون: مشاكل
المراهقين وأساليب التعامل معهم
مواضيع حول التنمية البشرية وتطوير الذات
أيضاً وأيضاً
الغزل: أبحاث ومقالات عن
شعر الغزل العذري والإباحي في كل العصور
شعراء: نبذة عن حياة
شعراء عرب في كل العصور
الطاقة: مقالات وأبحاث
عن الطاقة بكل أنواعها
تلوث ونفايات: مقالات
وأبحاث حول تلوث البيئة والنفايات
كوارث طبيعية: مقالات
وأبحاث عن الزلازل والبراكين والفيضانات وغيرها
مسلسلات: نقد وتحليل مسلسلات عربية وتركية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق