التقى "ابراهيم عبد القادر المازني" بشاب
اسمه "عبد الحميد رضا"، قام الأخير بتسليمه رسالة قال له إنها من إحدى
السيدات وإنه يعمل عندها خادماً لها، وقدّم له بطاقة شخصية تُثبتُ أنه خادم، وكان "المازني"
قد كتب رواية بعنوان: "غريزة امرأة"، ويبدو أنها حُوِّلَتْ إلى فيلم
سينمائي وقد شاهدت السيدة هذه الرواية فكتبت للمازني الرسالة التي حملها الخادم
إليه.
وقرأها المازني فإذا بها رسالةُ إعجابٍ وتشجيع، وكانت
الرسالة موقّعة اسم (فاخرة)، وتقول صاحبتها إنها أرسلتها مع تابعها وكما تشير
فإنها قد كتبت رواية عن الموضوع نفسه ولم تنشرها على الناس وتبغي من رسالتها أن
يأذن لها بنسخة من روايته، وبعض الكتب من كتبه كي تأنس بها في تربية مادة الأدب
الذي تعشقه، ثم تقول في ختام رسالتها "فهل تأذن وآية إذنك أن تبعث لي بشيء من
آثارك مع تابعي، وقد يكون كتابي هذا ركيكاً وغير مُعَبِّر تماماً عن روح الإعجاب
الذي عليّ نفسي وأخذ بتلابيب قلبي وقد يكون لي خير من هذا يوم أن نتعرّف أجساداً
وأرجو أن أوفّق إلى ما يتناسب وقدرك السامي" وأنهت الرسالة بقولها: إحداهن
واسمها فاخرة.
كتب
إليها يقول: "سيدتي الفاضلة: تحياتي إليك وشكري على رسالتك الرقيقة الكريمة،
واعتذاري على الكتابة بالقلم الرصاص فإني أولاً مريض، وثانيا ليس في بيتي حبر!!
وثقي أني أُقَدِّرُ نبلَ الإحساس الذي دفعك إلى كتابة هذه الرسالة، ولولا أني مريض
متعب ويدي ترتعش قليلاً من الضعف لحاولتُ أن أوفيها حقّها من الشكر، فهل تقبلين
عذري وتغفرين لي كل هذه الزلات ؟ أرجو ذلك، ويَسُرُّني أن أبعثَ إليك بنسخة من
كتاب توجد منه نسخة في البيت، إجابة لطلبك، ومن بواعث أسفي أنّ نسخ الرواية في
مكتبي، فإذا سمحت لي بإرسال تابعك يوم السبت إلى المكتب فإني أكون سعيداً بأن أقدم
لك نسخة منها، ولقد شوقتني إلى روايتك، ولكني لا أجرؤ أن أطمح في الاطلاع عليها
قبل نشرها إلا إذا شئت أن تغمريني بفضلكِ".
وعن
أسلوبها يقول لها" "كلا، ليس في لغتك ركاكة، وإنها لسليمة جداً، ومن
أرقى ما عرفت من أساليب الرسائل النسوية، أرقى من رسالتي هذه مثلاً، وسلامي إليك
وشكري الجزيل وأسفي الشديد... المازني".
وفي
رسالة أخرى يقول «عزيزتي الآنسة فاخرة هانم... أظن أنك حَيَّرتِني، حيرتني جداً
إلى حد أني بدأت أظن أن الذي يراسلني ليست آنسة ذكية القلب نافذة البصيرة، بل هي
شاب داهية يكاتبني باسم آنسة ليتفكه بي ويسخر مني، فما رأيك في هذا الخاطر. أعترف
لك أنه خاطر جرى ببالي من أول يوم وهذا هو السبب في التَحَرُّز الشديد الذي بدا
مني في رسائلي الأولى على الأقل، ولكني تساهلت قليلاً مع نفسي وأرسلتها على سجيتها
إلى حدّ محدود، فهل تدرين السبب في نشوء خاطر كهذا في رأسي؟ السبب أنني كنت ولا
أزال أعتقد أنه ليس في هذه الدنيا امرأة يمكن بأي حال من الأحوال أن يعجبها
إبراهيم المازني، ولست أقول هذا تواضعاً أو على سبيل المزاح، ولكنني أقوله لأنه
عقيدة راسخة مخامرة لنفسي مع الأسف، وقد كانت نتيجة هذه العقيدة أني كما أخبرتك في
رسالتي الماضية تحاشيت في حياتي أن أحاول التَحَبُّبَ إلى امرأة ولو كانت روحي
ستزهق من فرط حبي لها، ذلك أنّي أخشى أن أتلقّى صدمة فتكون النتيجة أن تجرح نفسي
فتثور فأتعذب.
تابعتْ
السيدة "فاخرة" كتابة رسائلها وأرسلت إليه هذه المرة صورتها وقالت له
إنها أرسلتها هدية وستردها بناء على طلبها فكتب إليها يقول: «أنا أكتب الآن على
عجل كأني أخاف أن لا... لا... لا أخاف شيئاً بل أتمنى أن أنقلب زفرة... تنهيدة
تطير إليك على جناح النسيم وتشعرك بما في قلبي... وليت لزفراتي روحاً تكشف عن
حقيقة أمري.
ويتابع
تعليقه على الصورة قائلاً: «فاخرة أسأل الله السلامة من كل هذا الحسن والسلامة وأي
أمل فيها، لقد كان ما خفت أن يكون وانتهى الأمر، أحببتك خيالاً، وها أنذا اليوم
أبصرك إنسانة حقيقية... لا بل رفعني الله إلى سماء كنت أتخيلها.
إن
مثل هذا الحب نعمة يا فاخرة، ومثل حبي لك مفخرة لي ورفعة لنفسي وسُمُوّ، أنت ما
زلتِ معنىً سامياً لم تتجسدي على الرغم من الصورة. كل ما أريتنه من الصورة أن ظني
لم يخب... إن الحقيقة أكبر وأفتن وأسحر من الخيال.
بعد
أن استعاد المازني الصورة كتب إليها إني مسكين، وإني محتاج إليك، وإني معذور إذا جُننتُ،
ولكني سأحتفظ ببقية عقلي من أجلكِ لتطيريه لي حين تقابليني، سامحيني... فإن عقلي
ليس معي. عقلي مع الصورة التي أعيدها إليك وقلبي يتمزق... لي رجاء صغير أعيدي إليَ
الصورة مع كل رسالة منك لأنظر إليها وأتزود ثم أعيدها إذا كنت لا تريدين أن أبقيها
عندي، أعيديها إليّ أستحلفك بأعزّ عزيز عليك بأن تعيديها إليّ لأراها مرة أخرى.
وهكذا
سقط "المازني" في حب امرأة خيالية مجهولة، فبعد شهور من كتابة هذه
الرسائل اكتشف أن الشاب الذي كان يحمل إليه رسائل المرأة المجهولة كان يخدعه وأنه
هو نفسه "عبد الحميد رضا" هو الذي يكتب تلك الرسائل.
انتهى
الأمر بأن ذهب هذا الشاب بما حصل عليه من رسائل إلى المجلات التي كانت تصدر في
الثلاثينات، وأعطاها رسائله ورسائل "المازني" فنشرتها، وادّعى الشاب أنه
كان يريد أن يحصل على رسائل أدبية راقية من الأديب الكبير عن طريق تحريك عواطفه،
وأنه لم يقصد إيذاء الكاتب الكبير ولا جَرْحِ مشاعره.
إقرأ أيضاً
للمزيد
أيضاً وأيضاً
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق