الاثنين، 22 يونيو 2020

• قصة مفقود: الهدية الأخيرة


على الساحل الشرقي للولايات المتحدة، حيث سقطت الطائرة المصرية واستقرت في قاع المحيط، كانت المأساة كاملة، واستمرت توابعها تترى على الساحل نفسه في متوالية حزينة بعد وصول أسر الضحايا إلى أقرب نقطة من مكان السقوط في ولاية "رود آيلاند".

رغم كل شيء، فالمكان بديع، فندق "دوبل تري" مستقر العشاق ومأوى الحالمين بالحب والسكينة، تحوطه المياه من كل جانب، ومزارع الورد تضفي على المكان سحرا وعبقا.
الاسم الرسمي للجزيرة هو "جزيرة الماعز"، أما سكان مدينة نيوبورت التي يفصلها عن جزيرتنا جسر يعلو المحيط، فيسمونها جزيرة الفردوس.
كان الفندق قد تم إخلاؤه تماما من النزلاء بتعليمات قاطعة من البيت الأبيض، وتم تسكين أسر الضحايا بمساعدة مندوبي شركة الطيران ومؤسسة مساعدة أسر الضحايا.
عقد أول مؤتمر يضم الأيامى والثكالى والأرامل واليتامى من ذوي الضحايا مع رئيس المجلس الأمريكي لسلامة النقل الجوي في وجود مندوبين عن البحرية الأمريكية وقنصل مصر العام، القاعة ضخمة جدا، ومن الواضح أنها أعدت على عجل.
سماعات الترجمة الفورية متاحة للجميع، الصليب الأحمر موجود لتقديم المساعدة، وكذا العديد من الجمعيات الدينية الإسلامية والمسيحية واليهودية، بعض التنافس الخفي لتأكيد الحضور يمكن ملاحظته، الشيوخ والقساوسة ينتشرون بين الناس يكتبون الأسماء ويحاولون تهدئة النفوس الملتاعة، المحامون الباحثون عن أفضل استثمار للكارثة يسعون لجمع التوكيلات، صرخة من هنا، ونحيب هناك، ونشيج مكتوم في كل مكان، حالة إغماء يهرع إليها رجال الإسعاف، صوت جريء يسأل عن موعد العشاء!
لافتة ممنوع التدخين واضحة للجميع شأن أي مكان عام بأمريكا، لكن من ذا الذي يجرؤ على تطبيق القانون بالقاعة الآن؟ كل الذي فعلوه أنهم فصلوا أجهزة الإنذار بالحريق ونشروا طفايات السجائر بكل مكان لينقذوا الأرضية من الدمار.
ألمحه وسط الجمع يجلس متململا على كرسيه، يقف ثم يجلس ويمشي خطوتين ثم يعود فيجلس يرفع رأسه لأعلى وأرى الزيغ في نظراته، اقترب منه حتى أواجهه، عيناه مجهدتان من البكاء والشوق إلى النوم، أسأله: هل أستطيع أن أساعدك؟ فيجيب: بل تستطيع أن تتركني وشأني.
- هذا أسهل ما يمكنني القيام به ولكني أود مساعدتك.
نظر إلي بعينيه المكدودتين في شك ثم طلب مني أن أجلس بجانبه وأن أساعده إذا أمكن في الحصول على ملابس، حيث إنه وصل إلى مطار القاهرة من بلدته بعد أن علم بالكارثة مباشرة غير مصدق أن أخاه الوحيد قد مات.
ثم حدث كل شيء بسرعة، تم تصويره واستخراج جواز سفر وتذكرة وتأشيرة ثم وجد نفسه داخل طائرة مع حشد من أهالي الضحايا، لأول مرة يركب طائرة في حياته، نام على مقعده حتى أيقظوه وأخبروه أنه وصل أمريكا.
انقطع الحوار بيننا عند بدء المؤتمر وران على القاعة صمت عميق، ثم بدأ السيد "جيم هول" يشرح تفاصيل ما سجله الرادار ويشرح الإجراءات المعتادة في مثل هذه الحوادث، وأخذ مندوب البحرية الأمريكية يعدد الصعوبات التي تعترض وصول سفينة البحث عن الحطام بسبب الأحوال الجوية، ثم بدأت الأسئلة تنهال على المنصة من كل جانب، بعضها بالإنجليزية وبعضها بالعربية مصحوبة بالترجمة الفورية عن انتشال الجثث وشهادات الوفاة والتعويضات وتحديد المسئولية عما حدث، ثم وجدت صاحبنا يقوم من مقعده ويتجه نحو الميكروفون ثم يوجه سؤاله: لماذا نحن هنا... هلا أخبر تموني عن سبب وجودي هنا بينكم؟
وجاء الرد الآلي من المنصة يحمل التعاطف والتعزية والرغبة في تقديم المساعدة و.. و...، فقال: نعم.. نعم.. أنا أشكركم على كل هذا، لكني بعد لم أفهم ماذا أفعل هنا أو ماذا علي أن أفعل؟ إذا كان أخي قد مات فامنحوني جثمانه وشهادة الوفاة حتى أدفنه في "البلد"، أنتم تقولون إن الجثث يصعب استخراجها الآن، وشهادات الوفاة مرتبطة بوجود الجثمان والتعويض مرتبط با لاثنين، فلماذا أحضرتموني إلى هنا وقد كان يمكنني أن أتفزج عليكم في التلفزيون كما اعتدت أن أفعل. ثم تهدج صوته وأخذ يبكي، فقام إليه بعض الرجال يهدئونه ويعيدونه إلى كرسيه، ويبدو أن بكاءه قد ألهب مشاعر الحاضرين فانتشرت العدوى ولمعت العيون بالدموع، وهنا اندفع رجل أمريكي في منتصف العمر فقد أمه في الحادث، وكانت- كما أخبرني فيما بعد- تدخر لمدة عشر سنوات لزيارة مصر، وقف أمام الميكروفون وفي يده علبة بيرة متسائلا في استنكار غاضب: أتعجز الولايات المتحدة بكل معداتها البحرية وإمكاناتهما التكنولوجية الهائلة عن انتشال الطائرة الغارقة وجثث الضحايا لمجرد أن أمواج البحر مرتفعة؟! إني أشم رائحة غير طيبة وأشعر أن لديكم ما تودون إخفاءه.
ويأتي الرد من المنصة رسميا، حكوميا، معلبا به من المواد الحافظة ما يجعلك تعافه وتعجز عن ابتلاعه كما وصفه الرجل ثم واصل:
أنا لا أصدقكم، ولا أثق بكم، ولن استمع إليكم بعد الآن، أنا ذاهب ومعي صديقي هذا- وأشار إلى صاحبنا- إلى مكان ليس به طبيخ فاسدا وأخذ ذراع الرجل الذي قام إليه في سكينة وخرجا من القاعة.
بعد انتهاء المؤتمر، لمحتهما يجلسان إلى مائدة داخل "البار" يتحدثان حديثا ضاحكا. اقتربت منهما، فأشارا إلي بالجلوس.. ولم أستطع أن أمنع نفسي من الدهشة وأنا أسأل صاحبنا المصري: هل تعرف اللغة الإنجليزية؟ فأجابني: ولا أعرف حرفا منها، فسألت الآخر: هل تعرف العربية؟ فكف عن الضحك واكتسى وجهه بالجدية وقال: ما لا تستطيع أن تفهمه تستطيع أن تحسه.. لقد استمعت من خلال سماعات الترجمة إلى ما قاله هذا الرجل وأستطيع أن أخبرك أنني أفهم حيرته، هل أصابتكم صاعقة العولمة لدرجة أنكم أصبحتم في مصر تقلدون الغرب فيما يفعله دون استبصار، فرأيتم شركة TWA والخطوط السويسرية تأتيان بأهالي ضحايا طائرتيهما إلى مواقع السقوط، فقررتم أن تفعلوا الشيء نفسه وأتيتم بهذا المسكين إلى حيث لا يدري ولا يرى لوجوده أهمية، ورفع كأسه لرفيقه فتركتهما وانصرفت.
في الصباح، التقيت صاحبنا المصري على الإفطار يجلس وحيدا، فجلست أفطر معه وسألته عن أحواله وما إذا كان قد حظي بنوم هادئ، فأجابني قائلا:
كل الناس يحكون لبعضهم هذا الصباح عن الأحلام المفزعة والنوم المتقطع والأرق الذي عانوه في ليلتهم، أما أنا، فقد نمت نوما عميقا، ولم يبدأ الكابوس إلا حين استيقظت!
شعرت أنه قد أنس إلي خاصة حين اعتذر عن فظاظته معي بالأمس، ومضينا في جولة داخل ردهات الفندق حتى وصلنا للباب الخارجي، فرأينا مندوبي وكالات الأنباء وشبكات التلفزيون يقفون وكاميراتهم مصوبة في وجه كل من يطل برأسه خارج الباب، فعلمت أن دخولهم الفندق محظور، وتوجه إلينا أحدهم محييا ومعزيا، وطلب منا أن ندلي بحديث، فاعتذرت له وهممت أن أمضي إلا أن صاحبنا قد فاجأني ممسكا ذراعي بقوة ومستوقفا إياي قائلا: أنت لا تريد أن تتحدث إليه، ولكنني أريد، فأجبته وقد أخذتني المفاجأة: ماذا تريد أن تقول له؟ وكيف تراك ستحدثه؟ بالإشارة؟ أم تظنه مثل صديقك الفيلسوف المخمور سيحس بك دون أن تنطق؟
يا صديقي إن كل ما يهم هذا الرجل هو الحصول على لقطة طريفة يستغل فيها ارتباكك وحزنك ليسلي بها مشاهديه، فانفعل بشدة زاعما أنه ليس مرتبكا وأنه قادر على أن يقدم نفسه إليهم بشكل طيب، ويشرح لهم قضيته! فطلبت منه أن يشرح لي قضيته هذه أولا. فأجابني: وما شأنك أنت يا متطفل.. فقط مطلوب منك أن تقوم بالترجمة.
وهنا انتبهت إلى أن عشرات الكاميرات تسجل ما يحدث بيننا، وقد التقطت حاستهم الصحفية أن هناك من يريد أن يتحدث، وهناك من يريد أن يمنعه، فمد أحدهم ميكروفونه وسأله عن اسمه، فأجاب: محمد.
- من أين أنت يا محمد؟ نقلت له السؤال، فأجاب من ميت خميس، ثم استطرد موجهاً سؤاله للصحفي وأنت، ما اسمك؟ نظر إلي الصحفي متسائلا، فقلت له. يسألك عن اسمك.
أجاب الصحفي: اسمي توماس أندرسون.
- من أين أنت يا توماس؟.. وهنا لم أتمالك نفسي من الضحك وسألته:

يا عم محمد، أنت الذي توجه الأسئلة! فرد بنفاد صبر: دعني أتعرف إليه على طريقتي، وكف عن تمثيل دور الحكيم.
- حاضر يا سيدي.. إنه يسألك يا مستر توماس من أي بلد أنت؟
فابتسم وقال: أنا من مينيسوتا.
وبشحنة من الود الصادق، رد محمد قائلا: "أجدع ناس"!
عند هذا الحد من الهزل، أعلنت له انسحابي، فوجدته يتعلق بذراعي وكأنني صرت كل أمله في الحياة وفي ضراعة استحلفني: لو تحب النبي لا تتركني، لقد سألتني بالأمس إذا كنت أحتاج إلى مساعدة، وهأنا أطلب مساعدتك لا تخيب رجائي.
اجتاحتني حزمة من المشاعر المتناقضة، إنني أشفق على الرجل من أن يصير أضحوكة، ولكنه ينظر إلى الأمر من زاوية يراها هو ولا أراها. وهو يطلب مساعدتي، وبإمكانه أن يأتي بمن يترجم له سواي، لكنه اختارني أنا، وأنا على أي حال، لست مكلفا بضبط سلوك البشر ولا ضبط انفعالاتهم، فليعبر عن نفسه إذن كما يشاء، واذا أردت أن أساعده فلأكن مترجما أمينا. يا مستر توماس: إنه يخبرك أن أهل ولايتك أناس طيبون مثلك.
- شكرا جزيلا.. ما قصتك يا مستر محمد؟
- أنا الاخ الأكبر لأربع فتيات ورجل واحد ابتلعه هذا البحر الذي أمامك، وابتلع معه أحلام الأسرة كلها، كان قرة عين والديه، متفوقا منذ الطفولة حتى أصبح مهندسا بشركة البترول، على عكسي أنا الذي لم أفلح في التعليم ولن أفلح في عمل، كان يتولى الإنفاق علينا جميعا، زوجته وأبناؤه وأمه وحتى شقيقاته المتزوجات، كلهم يعتمدون عليه، وأنا الرجل الطويل العريض هو الذي يعولني، فماذا أفعل الآن؟ إن أولاده سيقبضون مبلغ التأمين، وهذا حقهم، ولكن ماذا عني أنا؟
أشرت إليه بالسكوت حتى ألاحق ترجمة ما قال، لكنه لم يعرني التفاتا واستمر. لقد كنت بفضل علو شأنه أتجاسر على كل أهل البلدة، والآن سيدوسوني بسنابكهم، لكنكم أهل مروءة، وبالتأكيد لن تقبلوا لي الهوان، كل ما أريده منكم أن تنقلوا رسالتي للرئيس كلينتون، أريد كشك سجاير أتعيش منه في بلدكم الطيب هذا، ولن أطلب منكم شيئا بعد ذلك.
ثم لكزني في جنبي وقال لي: هيا... ترجم.
تحريت الدقة- قدر طاقتي- في نقل كل ما قاله، وانهيت المهمة بسلام، وأعجبني السلوك المحترف للصحفي الذي لم يظهر أي دهشة، ثم شكرنا وشد على يد محمد الذي لم يتردد في معانقته وكأنه صديق قديم، وسأله عن موعد إذاعة البرنامج، فأخبره أنه سيذاع بعد ساعة في القناة المحلية، وانصرف.
استدار إلى محمد وسألني: هل سيراني العالم كله في التلفزيون؟ فقلت له: في الغالب نعم، قال: والرئيس كلينتون؟ قلت له: هيا اصعد إلى غرفتك لتشاهد اللقاء على الشاشة وربما يراك الرئيس كلينتون. تركني وكل قسمات وجهه تنطق بالسعادة.
في الأيام التالية، صار إنسانا آخر، كنت أراه مزهوا بنفسه يسير في خيلاء، وكأنه أصبح من المشاهير، وكان جلس معظم الوقت بالمطعم أو بالبار وحوله جمع من الأصد قاء مستمتعا بالطعام والشراب والصحبة، أو واقفا وسط الكاميرات بالخارج يقص سيرته الذاتية، ويبدو أنه استغنى عن خدماتي ووجد مترجما آخر. وكان أحيانا يمر بي فيوصيني، إذا سأل عني أحد من مراسلي التلفزيون فأنا بالمطعم ولن أتأخر.
مازلت أسترجع تلك الأيام ولا أستطيع أن أمنع نفسي من التساؤل: هل كان لابد لهذا الرجل أن يفقد أخاه الوحيد حتى يحظى بهذه الإقامة الطيبة في أجمل بقعة، ويرتدي الملابس الجديدة، ويخالط أناسا من كل لون، ويحقق أوهامه في الشهرة الزائفة وهو الذي لم يغادر بلدته قط.
وهل كان أخوه كريما معه حتى النهاية، فاستقر بقاع المحيط بهذه المنطقة ليمنحه أسبوعا مجانيا فى جزيرة الفردوس؟
المصدر: أسامة غريب

إقرأ أيضاً
للمزيد              
أيضاً وأيضاً







ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق